يوم الجمعة كان دائمًا بالنسبة لى هو يوم الغداء عند «الباشا» قريب والدى.. وكان موعداً مقدساً يجتمع فيه معظم أفراد أسرة (فؤاد باشا سراج الدين) الى جانب بعض الاصدقاء المقربين جدا منه وذلك بالقصر التاريخى فى جاردن سيتى والذى يقع امام قصر الزعيم «مصطفى النحاس باشا» والذى يقال حاليا إن الشيخة موزة من قطر تحاول شراء القصر بمبلغ يفوق المائة مليون جنيه!! وكانت المتعة الحقيقية يوم الغداء عند الباشا هى فترة ما بعد الغداء.. مع الشاى الأخضر بالنعناع.. حيث كنا نجلس حوله فى غرفة مجاورة لغرفة نومه مليئة بالأوراق والكتب والجرائد.. ويجلس الباشا على فوتيه كبير ويشعل السيجار الشهير الذى كان العلامة المميزة له فى كل صورة.. ويشرب الباشا الشاى الأخضر ثم يبدأ فى سرد زكرياته التاريخية المتنوعة الاجتماعية والسياسية والفنية أيضًا!! وسألت الباشا: اسمهان توفت أثناء ما كنت حضرتك وزيراً للداخلية.. كانت حادثة مدبرة يا باشا. وجذب الباشا نفسا عميقا من سيجارة: وقال: اسمهان دى كانت مشكلة كانت عاملة «قلق جامد» فى البلد.. كانت بتشتغل مع الانجليز ومع الالمان فى نفس الوقت وكانت الحرب العالمية التانية على اشدها.. وكانت الملكة نازلى تغار منها غيرة شديدة لعلاقتها برئيس الديوان أحمد حسنين باشا ومرارا طلبت منى ابعادها عن مصر واكتر من مرة ارسلت من يهددها بالقتل فخافت اسمهان وسافرت للقدس بالقطار تاركة وراءها بعض المشاهد الباقية لها فى فيلمها الثانى والأخير «غرام وانتقام». وجن جنون يوسف وهبى بطل ومخرج الفيلم، فالفيلم من انتاج استوديو مصر المؤسسة القومية التى انشأها طلعت حرب باشا لتكون السينما مصدر الدخل القومى لمصر بعد القطن وخير دعاية سياحية لها فى جميع انحاء الوطن العربى، وجاء يوسف وهبى الى مكتبى وهو فى حالة نفسية سيئة وانا كنت اعتز جدا بيوسف وهبى واحترمه واحترم فنه وطلب منى مساعدته على إعادة اسمهان الى مصر حتى تكمل دورها فى الفيلم، وهنا خطر لى خاطر وقولت ليوسف وهبى: هى مش اسمهان سافرت القدس عشان خايفة من تهديدات الملكة نازلى؟ احنا هنزل خبر فى الجرايد ان جلالة الملكة نازلى قررت السفر الى القدس خلال الفترة القليلة القادمة.. هتلاقى اسمهان جات مصر على طول.. وفعلا اول ما نزل الخبر فى الجرايد وقبل ان تكذبه السرايا كانت اسمهان قد عادت الى القاهرة وجاء بها يوسف وهبى الى مكتبى فى وزارة الداخلية. سألت الباشا: كانت ست جميلة يا باشا؟ وابتسم الباشا وكأنه يستحضر صورة اسمهان فى خياله وقال: كانت انثى ساحرة لا انسى ابدا لون عينيها ولا عطرها.. طلبت منها فى حزم الالتزام بتصوير ما تبقى من لقطات الفيلم وعدم مغادرة القاهرة والاتصال بأى سفارة اجنبية.. وتعهدت بإطاعة هذه الاوامر وبدأت تصور ما تبقى من مشاهد الى ان اقتضى بناء ديكورات اغنية «الأسرة العلوية» عدة ايام وجدتها اسمهان فرصة لتسافر الى حيث يلتقى النيل والبحر الأبيض المتوسط.. رأس البر مصيفها المفضل واخذت معها صديقتها الحميمة «ده قيلادة» ولكن شاء القدر ان تنقلب السيارة بهما وتغرق اسمهان وصديقتها فى النيل بينما نجا السائق. وهنا سألت الباشا: يعنى الحادث مدبر ولا قضاء وقدر؟ واحتسى الباشا الشاى الأخضر وقال: فى ذلك الوقت قالوا حاجات كتير.. قيل إنها مؤامرة من الملكة نازلى.. وقيل إنها مؤامرة من ام كلثوم.. وقالوا المخابرات الألمانية.. وقالوا المخابرات البريطانية.. ولكنى حسمت الموضوع على انه حادث قضاء وقدر.. واستطاع يوسف وهبى بذكائه تغيير نهاية الفيلم الى نهاياته المفضلة وجعل «سهير» أو اسمهان تموت فى حادث سيارة ويصاب الاستاذ جمال «يوسف وهبى» بالجنون ويبقى فى مستشفى للامراض العقلية يعزف على الكمان ما أسماه «سهير لحن لم يتم». ويستطرد الباشا: واقترحت على يوسف وهبى ان يدعو جلالة الملك فاروق لحفل افتتاح الفيلم، خاصة ان بالفيلم نشيد الأسرة العلوية الذى يمجد محمد على باشا الكبير مرورا بالخديو إسماعيل إلى عصر الملك فاروق. وقلت ليوسف وهبى: الملك فاروق سيسعده حضور فيلم لاسمهان حتى يغيظ والدته التى يعلم هو كم كانت تغار منها وتكرهها لارتباطها برئيس الديوان وفعلا قبل الملك فاروق الدعوة وخصص يوسف وهبى «لوج» بجوار اللوج الملكى خاليا إلا من باقات ورود كثيرة كتب عليها الى روح اسمهان وعند نهاية الفيلم صفق الملك فاروق كثيرًا وحيا يوسف وهبى قائلا مبروك يا يوسف بك معلنا انعام جلالة الملك على يوسف وهبى بلقب «البكوية» ليكون ثانى فنان يحصل على هذا اللقب بعد سليمان بك نجيب أول مدير مصرى لدار الأوبرا الملكية. ونظرت إلىّ الباشا طويلا وقولت له: هذا النشيد موجود فى الإذاعة يا باشا وقد حذف من الفيلم. فنظر إلى الباشا وقال: التاريخ دائما يبقى يا سمير واللى بيحاول يلغى أو يحذف التاريخ هو اللى بيتحذف من التاريخ كله. نشر بتاريخ 4/2/2013 العدد 634