مظاهرات استرداد الثورة فى 25 يناير 2013 ليست طلقة أخيرة، بل مشهد افتتاحى عفى لعام ثورة، وليس يوم ثورة وغضب عابر، وترقبوا - من فضلكم - تدافع الحوادث اللاحقة على منحنى شهور عام النار. فالثورات لا تشترى من السوبر ماركت، ولا تقوم لمجرد أننا نريدها أن تقوم، وقد كانت لنا تجربة موحية فى حركة كفاية التى هى الأب الروحى للثورة المصرية الجارية فصولها، كانت الدعوة سارية والإرادة مؤكدة لدى المبادرين، وكانت الهبات تقوم، ثم يبدو أن كل شىء عاد إلى حاله، وتسرى مشاعر إحباط، ثم كانت مشاعر الإحباط ذاتها وقوداً لهبات أكبر، تزاوج فيها الغضب السياسى مع الغضب الاجتماعى، وعند لحظة انتفاضة 6 أبريل 2008، قلت وقتها إن القصة انتهت، وأن انتفاضة 6 أبريل 2008 هى البروفة الأخيرة للثورة المقبلة، وقد كان. لا نعنى أن القصة ستطول هذه المرة أيضاً، أو أن سنوات سوف تمضى فى انتظار انتصار الثورة، والسبب بسيط جداً، وهو أن الشعب المصرى عرف الطريق إلى انتفاضات الشارع، وتدفقت حيويته طافرة بعد ركود دام لعقود، وخرج من غيبوبة مميتة، وهو يفيق الآن، وتتفتح الورود فى روحه المتعبة، ويستعيد الشعور بالألم، واحذروا شعباً يتألم، ويفقد بلادة الصبر المستكين، فقد نفد صبر المصريين، وتوالت عليهم المحن، وتولد وعى جديد تزداد ثوريته وراديكاليته كل يوم، فقد انتقل وعى الثورة العفية إلى شرايين المجتمع المنهك، كانت الموجة الأولى للثورة الجارية عملاً ريادياً مباشراً لشباب من شرائح الطبقة الوسطى المستورة، ولم يكن مطلوباً غير مائة ألف من المبادرين، يرفعون الغطاء عن آبار الغضب متعدد الموارد، فتنزح الملايين من آبار بلا قرار، وأعطت ملايين الثورة عمقاً شعبياً، ووفرت مدداً هائلاً للمائة ألف مبادر، وبدت جموع الفقراء والكادحين فى صدارة المشهد، لكن إنهاك المجتمع بالفقر والبطالة والعنوسة والمرض بدت آثاره ظاهرة، وهو ما بدا فى صورة فجوة مقلقة بين طبع الثورة العفية وأحوال المجتمع المنهك، وقد عبرت أحوال المجتمع عن نفسها فى دورات استفتاءات وانتخابات تلاحقت، وبدت كأنها تخاصم الثورة، وتعطى غالب أصواتها لجماعات تخلفت عن الثورة، أو التحقت بها بطريق النفع البراجماتى، وبعد أن بدا خلع مبارك قدراً محتوماً، فأرادت الجماعات أن تزور الصورة، وأن تدعى وصلاً بالثورة، وأن تحرفها عن أهدافها، وأن تتقدم لملء فراغ جماعة مبارك، وهو ما بدا أنه يحدث، أو أنه قابل للاستقرار، وبما يعنى هزيمة كاملة للثورة، وهو ما حاولته جماعة طنطاوى وعنان، والتى فتحت الطريق لاستيلاء جماعة الإخوان، وكانت المحصلة على ما نعرف، فقد بدت المفارقة مؤلمة، بدت مصر بعد ثورة محكومة بالثورة المضادة، وفى طبعتين متواليتين، طبعة طنطاوى وعنان، ثم طبعة قيادة الإخوان، وهو ما بدا معه كأن مبارك انتصر موضوعياً، فقد ظل كل شىء على ما كان، ظلت اختيارات السياسة والاقتصاد على بؤسها، وتبين أن بؤس مرسى صورة طبق الأصل من بؤس مبارك، ومع فوارق التقادم فى المأساة، فقد تدهورت أكثر أحوال الغالبية العظمى من المصريين، وبان عجز مرسى، والذى بدا كأنه مصاب بشلل أطفال عقلى، ثم بدت نخبة الإخوان فى صورة مثيرة للشفقة، فقد تصورت غالبية المجتمع المنهك أن حكم الإخوان هو البديل، ولم يكن بمقدور المجتمع المنهك أن يدرك الخديعة فى زحام الصور، وأن يعرف أن الحقيقة ليست كذلك، وأن حكم الإخوان «حكم القرين» لا حكم البديل، وهى الحقيقة التى نبهنا إليها لسنوات حين قلت إن ما بين جماعة الإخوان وجماعة مبارك مجرد تناقض فيزيائى، وليس تناقضاً سياسياً ولا اجتماعياً، وهو ما كان يفسر حرص جماعة مبارك غريزياً على رمى جماعة الإخوان من النافذة، فقد ركبت الجماعتان فى المركبة ذاتها، وعلى خط السير نفسه، وحين خلت المركبة من جماعة مبارك، قفزت إليها جماعة الإخوان، ولتواصل الرحلة نفسها، وتدير - بالوكالة - بلداً تحول إلى مستعمرة أمريكية بامتياز، تستنزف ثروته، وموارده جماعة من «رأسمالية المحاسيب»، وتستثير التناقضات الكامنة فى مجتمع منقسم إلى أغنى طبقة وأفقر شعب، تزيد الأغنياء غنى، وتزيد الفقراء فقراً، وتذهب بمصر إلى جحيم حقيقى، ولا تعنيها سوى المكاسب العائلية المباشرة، وتحل عائلة مكتب الإرشاد محل عائلة مبارك، وتتعامل مع بلد التسعين مليونا كعزبة خاصة، يتصورون أنهم ورثوها عن الآباء والأجداد «!». ودعك من حكاية أن مرسى رئيس منتخب، بينما لم يكن مبارك كذلك، فصحيح أنه جرى انتخاب مرسى بأغلبية بسيطة جداً، وليس حباً فى مرسى، بل كراهية لشفيق رجل جماعة مبارك، لكن مرسى مزق بنفسه أوراق عقد انتخابه رئيساً، وفقد شرعيته الانتخابية بالكامل من وقت إصدار إعلانه الديكتاتورى، انقلب مرسى على الشرعية، وأعطى - بالمقابل - شرعية للثورة عليه، وشرع فى إقامة مؤسسات باطلة بالجملة. وفرض دستور الأقلية المفصل على مقاس الإخوان، والذى حصل - فقط - على عشرين بالمائة من أصوات هيئة الناخبين، ثم سلك طريق وعد بلفور، وعلى طريقة الذي يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق، أعطى مرسى «مجلس الشورى» سلطات التشريع كاملة، وهو المجلس الذى كان منتخباً بأصوات سبعة بالمائة فقط من هيئة الناخبين، ثم إنه فى حكم المنحل، ولم تكن سلطة تشريع تذكر وقت انتخابه، ثم واصل مرسى رحلة التلفيق والانقلاب على الشرعية، ودعا - على طريقة مبارك ذاتها - إلى حوار تحول إلى خوار، وبدا مرسى كأنه يحاور نفسه، ثم بدا أنه مجرد دمية فى يد مكتب إرشاد الإخوان، دمية مدربة على السمع والطاعة، وتتحكم به جماعة ليس لها وجود شرعى من أصله، ولا يعرف أحد من أين تأتى مواردها وملياراتها، وبدا أننا أمام عصابة سرية تحكم البلد، وتتعمد تفكيكه وتخريبه، وتتآمر مع أعدائه لتهدم ما تبقى له من عناصر الأمن والسلامة، وهو ما أظهر حقيقة قيادة الإخوان، وكجماعة ترتكب جنايات وخيانات عظمى بحق البلد، وتأتمر بأمر أمريكا ووكلائها الإقليميين فى قطر وغيرها، وتتقنع بالإسلام الذى سقط عنها قناعه، وبانت حقيقة مودتها لليهود والإسرائيليين، وهو ما جعل البلد - بالجملة - فى كابوس مخيف، يضغط على الأرزاق والأعصاب، وهو ما يفسر تحول مقرات حزب الإخوان - كما كانت مقرات حزب مبارك - إلى عناوين للشر، وقد لا نستسيغ حرق مقرات أو منشآت، ولا نوافق على الخروج عن المعنى السلمى للثورة، لكن قيادة الإخوان أفقدت الشعب المصرى عقله، وأحرقت أعصابه، وغدرت بثورته وحلمه فى استرداد آدمية وكرامة المصريين، والذين تقتلهم قوات الداخلية المأمورة من مرسى فى ميادين الغضب، وتحاول إبادتهم بقنابل الغاز السام المستورد من أمريكا. وبالجملة، نحن إزاء حكم «افتراضى» غير شرعى بالمرة، وإزاء شعب نفد صبره، وقد تحاول ميليشيات الإخوان إطالة عمر الحكم العبثى، فهى تدرك - غريزياً - أن هذه فرصتها الأخيرة، لكن الشعب المصرى - بالمقابل - يبدو أكثر تصميماً، وتتلاحق موجات غضبه السياسى والاجتماعى، وينتصر لثورته المغدورة، ويستفيد من الغباوة الخلقية لحكم الإخوان، وهى تماثل تماماً غباوة مبارك، فالقوة العارية من العقل غبية بطبعها، ويقودها سباق الغرائز من القصر إلى القبر، وهو ما حدث لمبارك، وسيحدث يقيناً لطغاة الإخوان. نشر بتاريخ 28/1/2013 العدد 633