محمد مرسى فقد شرعيته كرئيس منتخب فى لحظة إصدار قراراته الديكتاتورية الأخيرة، وفتح الباب للخروج عليه وخلعه لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. ويخطئ مرسى لو تصور أنه سيحتمى بتنظيم جماعته الإخوانية، وبمليارات المال الحرام من قطر وغيرها، وبدعم الأمريكيين المحتلين لقرار مصر، وربما كانت مصادفة بليغة، أن قرارات مرسى المتجبرة العبثية صدرت بعد لقائه مع هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، وبعد تهنئة الرئيس الأمريكى أوباما لمرسى على أداء الدور المطلوب منه فى حرب غزة، وإثبات ولاء الإخوان لواشنطن، فقد فقدت إسرائيل برحيل مبارك «أعظم كنوزها الاستراتيجية»، لكن واشنطن عوضت الخسارة الإسرائيلية بكسب مرسى وجماعته، وجعل الجماعة «أعظم كنز استراتيجى للأمريكيين»، وهو ما بدا جليا فى تصرف مرسى وجماعته مع حرب غزة الأخيرة، وتحت ذات السقف المنخفض الموروث عن مبارك، أى دون المساس بكامب ديفيد مع الوساطة الضاغطة على الفلسطينيين. يقولون لك إن مرسى رئيس منتخب، وأنها إرادة الشعب، بينما الحقيقة فى مكان آخر، فهم يدوسون إرادة الشعب، ويخونون مصر، وينقلبون على الثورة، وعلى طريق التحول الديمقراطى، فقد انتخب المصريون مرسى كرئيس، انتخبوه كرأس للسلطة التنفيذية، وبأغلبية محدودة جدا، وبتفويض محدد جدا، انتخبوه كرئيس وليس كملك، ولا كحاكم بأمر الله، ولا كقراقوش، ولا كعميل لجماعة الإخوان فى قصر الرئاسة، وما حدث مع القرارات الديكتاتورية الأخيرة، أن مرسى تحول من رئيس إلى ديكتاتور، وجمع السلطات كلها فى يده، وكأنه يقول: «أنا الدولة» على طريقة لويس السادس عشر، وكأنه يقول: «أنا ربكم الأعلى»، ونحن لم ننتخب مرسى كرب لأن الكل عباد الله، وقد اخترق بقراراته حدود التفويض الشعبى، ولم يعد بقاؤه فى منصبه مشروعا، فقد هدم أى معنى أو مبنى للدولة أو للشرعية، وأشعل موجة غضب جديدة جارفة فى ميدان التحرير، أشعل الثورة الثالثة فى مصر خلال سنتين، فقد أنعم الله على مبارك بالغباء المفرط، وكانت النتيجة: خلعه فى موجة الثورة الأولى فى 25 يناير 2011، وأنعم الله على خلفائه فى المجلس العسكرى بالغباء والفساد، وكانت النتيجة: خلع المجلس العسكرى بثورة ثانية بدأت دون الإخوان فى 19 نوفمبر 2011، وبعد عام واحد، جمع حكم الإخوان زاد مبارك من الغباء إلى زاد المجلس العسكرى من الفساد، وأضافوا عليه تواطؤا وخيانة للشعب والوطن والدين، وكانت النتيجة الفورية أن بدأت وقائع الثورة الثالثة بميدان التحرير فى 23 نوفمبر 2012، ولم يجرؤ الإخوان على الاقتراب من ميدان التحرير هذه المرة، وهربوا للتظاهر بنصرة مرسى أمام قصر الاتحادية، وفى ذات المكان الذى كان مفضلا لمظاهرات جماعة «آسفين يا مبارك»(!). وتصور أن مرسى يُنسب للثورة هو فضيحة عقلية ووجدانية، فمرسى وجماعته هم قوة ثورة مضادة بامتياز، وراجعوا سجل جرائمهم بحق الثورة، فقد عقدوا مفاوضات سرية مع عمر سليمان رجل مبارك فى عز مظاهرات ميدان التحرير، وكان مرسى بشخصه ضمن وفد الإخوان فى مفاوضات الغدر بالثورة، ثم عقدوا الصفقات المريبة مع مجلس مبارك العسكرى بعد ذهاب المخلوع، وتآمروا على شهداء الثورة الثانية التى بدأت من ميدان التحرير وشارع محمد محمود، واختارتهم أمريكا حكاما بالوكالة لرعاية مصالحها فى مصر والمنطقة، وقد بدت ارتباطات الإخوان بالثورة المضادة ظاهرة فى قرارات مرسى الديكتاتورية، فقد ادعى زوراً أنه سيعيد محاكمات قتلة شهداء الثورة، ولم يلحظ كثير من الناس نص العبارة التى انتهى بها قراره الخادع بإعادة المحاكمات، والذى حصر إعادة المحاكمة فى «كل من شغل منصباً سياسيا أو تنفيذيا فى عهد النظام السابق»، أى أن المقصود بالمحاكمة مجدداً هم مبارك ورجاله، وأن المقصود بجرائم القتل التى يعاد التحقيق فيها يتوقف عند تاريخ 11 فبراير 2011، أى عند يوم إعلان مبارك تخليه عن الرئاسة، وتسليمها لمجلسه العسكرى، وهو ما يعنى بالبداهة أن كل من شغل منصبا سياسيا أو تنفيذيا فى عهد المجلس العسكرى لن يحاكم أصلاً، وأن كل من شغل منصبا سياسيا أو تنفيذيا فى عهد مرسى لن يحاكم أيضا، والمعنى: تحصين القتلة فى جرائم قتل مئات الشهداء، وبمن فيهم الشهيد الشاب جابر صلاح الذى قتلته قوات مرسى، فقد ارتكب مرسى نفس الجرائم المنسوبة لمبارك، ويريد أن يوهم الناس أنه يقف مع الشهداء، بينما هو المثال الساطع لخيانة دم الشهداء، ولم يقصد بدعوى إعادة المحاكمات سوى تضييع الوقت وذر الرماد فى العيون، وطمس الأدلة، والضحك على الذقون، ثم وضع «ملعقة عسل» على حلة السم التى هى قرارات مرسى، وهو ما ينطبق على قرار مرسى بإقالة النائب العام عبدالمجيد محمود المكروه عندنا، وتنصيب القاضى طلعت إبراهيم بدلا منه، فقد أزيح النائب العام المعين من قبل مبارك، وجاء نائب عام معين من قبل مرسى، أى أنه أحل «نائب عام» من إخوان مرسى محل آخر من إخوان مبارك، أى أن «التسييس» المفرط فى الحالتين فاضح وفادح، واحتلال السلطة التنفيذية للسلطة القضائية هو نفسه فى الحالتين، وقد كان مبارك دائما يتحدث عن استقلال القضاء مع كل قرار يتخذه باحتلال القضاء، وهى الطريقة نفسها التى يتحدث بها مرسى، ويفعل، والنتيجة: تحويل القضاء إلى مرفق صرف صحى، وتسييد شريعة الغاب لا شريعة الله، وتحويل القضاة إلى موظفى أرشيف، وإلغاء أى جهة يصح التحاكم إليها فى خلافات السياسة والمجتمع، وهو ما لم يخجل مرسى من الجهر به علناً فى جوهر قراراته الأخيرة، فقد ألغى سلطة القضاء كليا فى هذا البلد، وزعم أنه يطهر القضاء بينما يرتكب أعظم جريمة إفساد للقضاء، والدوس على كرامة القضاة، جميعا، والتغول على السلطة الوحيدة التى يصح الاحتكام إليها، وتحصين نفسه وقراراته وتأليهها، وتنصيب نفسه «فرعون» يأمر فيطاع، ومنح شخصه حق اتخاذ جميع الإجراءات التى ترد على بال سيادته، أو تخطر فى عقل مستشاريه البؤساء، فقد قرر مرسى الخروج عن طوع ناخبيه، والدخول فى طاعة مرشده المأمور من الأمريكيين والخليجيين، وهو يتصور أن قراراته تضمن له طول البقاء، وتضمن لجماعته فرصة أخذ البلد كغنيمة، وهكذا كان يفكر مبارك بالضبط، ثم كانت نهايته، وهو القدر الذى لن يفلت منه مرسى ولا جماعته، مهما حشدوا من حشود ممولة بمليارات المال الحرام، فإرادة الشعب من إرادة الله، وحشود الثوريين أعظم من حشود الإخوان، و«جمعة الغضب» التى أطاحت بمبارك تتكرر الآن مع مرسى، ومع فارق ملموس لصالح نقاء الثورة هذه المرة، فقد غاب الإخوان واتبعوا سبيل الشيطان، وراحوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وينقلون الكلمات من كتاب الله إلى كتاب الشياطين. وباختصار، مصر الآن فى لحظة فارقة، مصر فى احتقان وطنى بسبب تورط الرئيس وصمته عن مؤامرة فصل سيناء، وفى احتقان اجتماعى بسبب خيانة الرئيس للشعب وانحيازه لمصالح المليارديرات، وفى احتقان سياسى بسبب خيانة الرئيس وتجاوزه لحدود التفويض الشعبى، وربما تكون غباوة مرسى مفيدة فى شفاء البلد من داء الإخوان، وتذكروا جيدا يوم جمعة الغضب الجديدة فى 23 نوفمبر . نشر بالعدد 624 بتاريخ 26/11/2012