تواصلت لليوم الثاني على التوالي فعاليات الندوة الدولية الثانية التي تنظّمها دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، بمشاركة واسعة من كبار العلماء والخبراء من مختلف الدول، حيث شهدت الفعاليات انعقاد الجلسة العلمية الثالثة، برئاسة سماحة الشيخ أرشد محمد، مفتي المجمع الوطني للإفتاء والشؤون الإسلامية بجنوب أفريقيا، وبمناقشة الأستاذ الدكتور يوسف عامر، عضو مجلس الشيوخ. وجاءت الجلسة في إطار تعميق النقاش العلمي حول أثر الفتوى في مواجهة التحديات المعاصرة، وترسيخ القيم الأخلاقية، وصون الهوية الدينية في ظل التحولات الفكرية والرقمية المتسارعة. وفي هذا السياق، قدّم الأستاذ الدكتور أحمد خليفة شرقاوي أحمد، أستاذ قانون المرافعات بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر ورئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهد الأزهرية، بحثًا بعنوان: «أثر الفتوى في ترسيخ القيم الأخلاقية والحد من الانحراف السلوكي»، أكد خلاله أن الفتوى الشرعية الرشيدة تمثل أداة فاعلة في بناء الإنسان وحماية المجتمعات، لما لها من دور في ضبط السلوك الإنساني وتعزيز منظومة القيم وتحقيق الأمن المجتمعي. وأوضح أن رسالة الإفتاء لا تقتصر على بيان الحكم الشرعي، بل تمتد إلى الإصلاح والتقويم ومواجهة مظاهر الغلو والانحراف.
وشدد د. شرقاوي على أهمية التأهيل العلمي والمنهجي والأخلاقي للمفتين، بما يضمن صدور فتاوى منضبطة تراعي الواقع وتحقق مقاصد الشريعة في العدل والرحمة وصون الكرامة الإنسانية، مؤكدًا أن الأزهر الشريف كان ولا يزال الحاضنة العلمية الأصيلة لإعداد العلماء والمفتين، بما يمتلكه من منهج وسطي راسخ أسهم في حفظ الدين واستقرار المجتمعات عبر العصور. كما أشار إلى ضرورة استحضار البعد الإنساني والشرعي في قضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عدل وحقوق إنسان. ومن جانبه، تناول الأستاذ الدكتور رضا عبد الواجد أمين، عميد كلية الإعلام بجامعة الأزهر، في بحثه المعنون: «الخطاب الإفتائي في المنصات الرقمية ودوره في مواجهة الغزو الثقافي وتحصين الهوية»، أهمية دراسة الحضور الإفتائي على وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل الانتشار الواسع للفتاوى الرقمية. وأوضح أن الخطاب الإفتائي المؤسسي يتميز بالانضباط والوعي مقارنة بالخطاب الفردي غير المنضبط، مؤكدًا أن المحتوى الإفتائي المنظم يسهم في الحد من آثار الغزو الثقافي وتعزيز الوعي الديني والفكري. ودعا إلى وضع مدونة سلوك تنظم إنتاج الفتوى الرقمية، وتحمي وعي المستخدمين وتعزز الأمن الفكري.
كما قدّمت الأستاذة الدكتورة غادة عبد الجليل أحمد الغنيمي، أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بجامعة الأزهر، بحثًا بعنوان: «دور الفتوى في مواجهة الغزو الثقافي في زمن العولمة الرقمية»، تناولت فيه تأثيرات الثورة الرقمية والعولمة الثقافية على الهوية الدينية، خاصة لدى الشباب. وأكدت أن الفتوى تمثل خط الدفاع الأول لحماية الهوية الدينية، مشددة على ضرورة تبني خطاب إفتائي يجمع بين الأصالة الشرعية والفهم العميق للواقع الرقمي، بما يواجه التحديات الفكرية المستجدة ويحافظ على منظومة القيم.
وفي السياق ذاته، قدّم الدكتور علي محمد حسن علي، أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، بحثًا بعنوان: «أثر الفتوى المعتدلة في ترسيخ القيم الأخلاقية والحد من الانحراف السلوكي»، أوضح فيه أن الفتوى في التراث الإسلامي تمثل جسرًا يربط بين الوحي والواقع، وتسهم في تشكيل الوعي الديني والاجتماعي. وأكد أن القراءات المتشددة للنصوص الشرعية تعد من أبرز أسباب الانحراف السلوكي، داعيًا إلى إعادة بناء الخطاب الإفتائي على أسس عقدية وسطية، مستندة إلى منهج الاعتدال، بما يسهم في ضبط السلوك الفردي والجماعي، وترسيخ الاستقرار القيمي داخل المجتمع.
واختتمت الجلسة بالتأكيد على أن الفتوى المعتدلة الواعية تمثل ركيزة أساسية في حماية الهوية الدينية، وبناء الإنسان أخلاقيًا، ومواجهة التحديات الفكرية والثقافية في العصر الرقمي.