إذا أردت أن تقتل مشروعا كبيرا، فضع في طريقه العراقيل وأطلق عليه جحافل الروتين.. وإذا أردت أن تغتال حلما، فابتكر له المشاكل وقاوم أية محاولة لإيجاد الحلول والتيسير علي الناس.. وهذا ما حدث - ويحدث - مع مشروع "ابني بيتك"، بعد أن نجح في خلق حالة خاصة بين المستفيدين منه.. باعتباره مشروعا متجاوزا لطابور الإحباطات، ومبشرا بمجتمع جديد ينهض علي سواعد الشباب، ويستمر بأفكارهم وإصرارهم علي إنجاز البيت الحلم.. لكن الواقع دائما أسوأ كثيرا من الأحلام! فقد تم الإعلان عن المشروع في إطار البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك، ولم يكن القائمون عليه يتخيلون أن يصبح مشروعا قوميا بحق وحقيق، ولم يكن يتخيل المتقدمون إليه أن يخلق بينهم حالة خاصة تجمعهم علي حلم امتلاك بيت - أو فيلا كما يسميها البعض! - هم الذين يبنونه "طوبة طوبة"، ويضعون فيه عصارة أملهم وتحويشة عمرهم.. كان المشروع كغيره من مشاريع وزارة الإسكان.. قطعة أرض بسعر رمزي قدره 70 جنيها للمتر، بشرط أن يقوم المستفيد ببناء نصف المساحة في خلال سنة، ليحتفظ بأرضه ويحصل من الدولة علي 15 ألف جنيه كدعم لا يرد، وكانت الوزارة قد حددت للمشروع 20 ألف قطعة علي مستوي الجمهورية.. فتقدم أكثر من 100 ألف مواطن يرغبون في بناء بيوتهم.. وتحول المشروع من "عادي" إلي "استثنائي" بعد إصدار الرئيس مبارك قرارا بحصول كل المتقدمين للمشروع وتنطبق عليهم الشروط علي قطع أراض.. وأسقط في يد الوزير أحمد المغربي والوزارة طبعا لأن الذين تنطبق عليهم الشروط وصل عددهم إلي 92 ألفا، وهذا يعني بحسبة بسيطة ضرورة توفير 72 ألف قطعة إضافية علي مستوي الجمهورية.. وبالفعل نجحت الوزارة في توفير جميع قطع الأراضي المطلوبة.. وبدأ الحلم ينمو، ويكبر، وبدأ المستفيدون من المشروع يرون أنفسهم في أحلامهم الوردية وهم يبنون بيد، ويزرعون الحديقة باليد الأخري! لكن الواقع جاء كالعادة ليحيل الحلم إلي كابوس. فهناك تخبط شديد في المشروع.. وروتين يجعل القرارات غير ثابتة وأحيانا متضاربة، والصورة غير واضحة، والمعلومات غائبة أو مغيبة.. الوزارة تركت المستفيدين في مواجهة العربان والبلطجية, والمقاولون استغلوا الظروف لمص دم الشباب الغلابة الذين لا يعرفون شيئا عن المقاولات ولا البناء.. والاستغلال والاحتكار أعلنا عن وجهيهما القبيح دون أن يتحرك أحد ويعطف علي الشباب الذين يتحركون وعلي رقابهم سيف الوقت.. ومكاتب هندسية فاشلة وجدتها فرصة لاستغلال المستفيدين الراغبين في عمل تعديلات في الرسومات الهندسية.. فأضافوا أعباءً أخري علي الأعباء الموجودة أصلا.. ووجد المستفيدون أنفسهم بمفردهم في صحراء جرداء.. لا يتورع أحد فيها عن استغلالهم والحصول منهم علي ما معهم وكأنهم من أثرياء الانفتاح.. وبدأت الصورة الوردية تتحول إلي اللون الأسود، ورحلة بناء البيت تتحول إلي رحلة عذاب.. تنتقم فيها الدولة من الشباب الذين ارتكبوا جريمة نكراء حينما صدقوها واندفعوا وراء أحلامهم المشروعة بامتلاك بيت حتي لو كان مثل "علبة سردين"! وضاقت الدنيا في وجوههم أكثر من المساحة الخانقة التي تعطفت عليهم بها الوزارة.. وفكروا في لحظة يأس في اللجوء إلي حماية الدولة.. فذهبوا إلي وزارة الإسكان وقالوا إنهم تعرضوا لعمليات نصب كثيرة من مقاولين مزيفين ومهندسين جهلة وفاشلين ومزورين، ومجرمين هاربين من القانون وجدوا فرصة للتربح من وراء المشروع مستغلين غياب وزارة الداخلية وانشغالها بالتعذيب والتنكيل بالمواطنين، وخوف الناس علي مصالحهم.. وفي النهاية اقترح المستفيدون من المشروع علي الوزارة أن تقوم هي بعملية البناء من خلال إسناد العملية إلي شركة كبيرة.. في مقابل أن يدفع المستفيد المبلغ مرة واحدة أو علي مرتين للوزارة أو للشركة التي تقوم بإنجاز المشروع.. لكن الوزارة رفضت بدعوي أن اسم المشروع "ابني بيتك".. وليس "تعالَ لأبني لك بيتك"! منطق أعوج وعجيب.. وطبقا له فللوزارة الحق في أن تسحب من كل المستفيدين قطعهم لأنهم لم يبنوا بيوتهم بأنفسهم ولكنهم استعانوا بمقاولين أخذوا المبلغ الذي يريدونه وبنوا لهم بالطريقة التي يرونها.. منهم من غالي في مطالبه، ومنهم من غش في مواد البناء، ومنهم من أخذ المبلغ كله، و"فص ملح وذاب".. وقليلون هم الصادقون في عملهم من المقاولين أو المهندسين! ولم ييأس المستفيدون فذهبوا إلي بنك التعمير والإسكان وعرضوا عليه الأمر، ووافق رئيس البنك من حيث المبدأ، ووعد بدراسة الموضوع، والدراسة جاءت في صالح الاقتراح، وتحدد مبلغ يدفع مقدما، ويتم تقسيط الباقي بحيث يدفع المستفيد 400 جنيه شهريا.. وفرح المستفيدون وهللوا.. لكن حتي الآن لم ترد الوزارة لا بالرفض ولا بالقبول.. ويبدو أنها تدخر ردها لما بعد الانتهاء من المشروع! وبالتدريج بدأ الحلم الذي عاشه 92 ألف مستفيد من المشروع علي مستوي الجمهورية يتحول إلي كابوس.. حيث تحاصرهم المشاكل من كل مكان.. وتقف الدولة تتفرج عليهم مستمتعة لتري كيف يتصرفون، حتي أصبح الأمر أقرب إلي لعبة القط والفأر.. فالأجهزة تتحايل للإيقاع بالمستفيدين حتي تضيع عليهم الدعم المادي، والمستفيدون يصرخون ولكن صراخهم يضيع في الصحراء.. ورغم اقتراب المشروع من نهايته مازالت ملامح الخدمات والمرافق غير واضحة المعالم في كثير من المناطق، وهو أمر غريب، حيث تفرض الدولة علي المستفيدين أن ينتهوا من البناء في 15 شهرا - بعد أن تفضلت مشكورة بمد فترة السماح بالبناء ثلاثة أشهر - ولكنها هي نفسها لا تفعل المطلوب منها بالنسبة للخدمات والمرافق.. فقد انتهي بعض المستفيدين بالفعل من بناء بيوتهم، بعد أن باعوا شققهم واقترضوا لاستكمال بناء الحلم، وأصبحوا مجبرين علي الإقامة في بيتهم بعد بنائه.. لكنهم عندما ذهبوا لم يجدوا سوي صحراء ليس فيها إلا الذئاب والزواحف والعربان.. فالخوف يحيطهم من كل جانب.. لا ماء، ولا كهرباء، ولا خدمات، ولا حياة.. ولا وجود للدولة علي الإطلاق!