صديقنا المنوفى المتيم بالأدب والأدباء وبالشعر والشعراء - الخبير اللغوى الأحمدى الشلبى. أرسل هذه الرسالة الثالثة فى الموضوع العظيم عن أمير الشعراء شوقى. تقول الرسالة» دعنا نحلق، مع شوقى، فى سماوات خيالاته الرحبة، بأجنحة من نور، وأجواء تثير البهجة، وخيلاء الفخار والاعتزاز والسمو؛ والاعتداد بالنفس والذات المصرية، وتحملنا نسائم النيل؛ تتهادى فى أجواء أسطورية، كالبلابل المغردة، والطيور المشقشقة، نطوف حول النهر المقدس، نسمو ونسمو، ونرتفع؛ فوق، ذروة المجد لنرتفع بالوطن؛ والعالم، وكيف أنه وطن يستحق الارتقاء، والتضحية فى سبيله؛ أسمى من أى اعتبار، ونعيد شحذ الهمم، واستنهاض العزائم؛ وتنقيةالضمائر؛ ونفض الغبار، لانطلاق المارد من القمقم؛ الذى أجبر على الدخول فيه قسرا؛ لأجندات خارجية؛ تخشى انطلاقنا؛ ويقلقها تميزنا؛ وينفذها البعض، دون وعى أو ضمير وطنى، ولنتأس بقول شوقى عن ماهية الدين الحق. يَدعو إِلى بِرٍّ وَيَرفَعُ صالِحا *** وَيَعافُ ما هُوَ لِلمُروءَةِ مُخلِقُ - وهب الوهاب - سبحانه وتعالى - أمير الشعراء موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، لا يجد عناء فى نظم القصائد، فدائمًا كانت المعانى تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعرى ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربى قديم أو حديث، كما وكيفا. - وإذا كان الخيال هو القوة المحركة للإدراك الإنسانى، كما يقول الشاعر الإنجليزى وليم بليك، والخيال وليد العاطفة، كما أجمع فقهاء البلاغة العربية، فإليكم بعض من وليمة شوقى الشهية التى تحوى ألوانا شتى من العاطفة الجياشة، والألفاظ الطلية الخلابة؛ واللغة الحية الثرية، وكأنما يحقق قول (ابن جِنِّى) : إن اللغة كائن حى. إلى جانب التصوير البارع، والموسيقى الرنانة الأخاذة الثرة، بل ستظل؛ فى نشوة متصلة، ونهم بالغ لذلك المنهل العذب، وكأن رجع حديثه قطع الرياض كُسِينَ زهرا، - أتفق مع د. شوقى ضيف أن شوقيًّا، كان موسيقار اللغة، بلامنازع؛ وعلى أن قصيدة النيل؛ جسدت شخصية النيل المعنوية، بجانب شخصيته المادية، ولعلى أضيف أنها؛ الأروع؛ من كل الوجوه، فقد أجاد التصوير بدرجة مبهرة. جعل الحياة فى النيل قريبة من أعيننا ونفوسنا؛ بل نلمسها بأيدينا. نلمس ذلك جليا فى تناوله للجانب الدينى، المبهر للنهر المقدس، وكيف أنه مَهَّد وكان مَهْدا للديانات السماوية، حيث احتضن تابوت موسى، وروح عيسى الطاهرة، والعذراء البتول، ولواء الجمال عند يوسف وإخوته، ولجامع التوحيد فيه تعلق- عليهم رضوان الله وصلاته جميعا وسلامه أصلُ الحَضارَةِ فى صَعيدِكَ ثابِتٌ *** وَنَباتُها حَسَنٌ عَلَيكَ مُخَلَّقُ وُلِدَت فَكُنتَ المَهدَ ثُمَّ تَرَعرَعَت *** فَأَظَلَّها مِنكَ الحَفِيُّ المُشفِقُ مَلأت دِيارَكَ حِكمَةً مَأثورُها *** فى الصَخر وَالبَردى الكَريمِ مُنَبَّقُ وَبَنَت بُيوتَ العِلمِ باذِخَةَ الذُرى *** يَسعى لَهُنَّ مُغَرِّبٌ وَمُشَرِّقُ وَاِستَحدَثَت ديناً فَكانَ فَضائِلاً *** وَبِناءِ أَخلاقٍ يَطولُ وَيَشهَقُ مَهَدَ السَبيلَ لِكُلِّ دينٍ بَعدَهُ ***كَالمِسكِ رَيّاهُ بِأُخرى تُفتَقُ يَدعو إِلى بِرٍّ وَيَرفَعُ صالِحاً *** وَيَعافُ ما هُوَ لِلمُروءَةِ مُخلِقُ لِلناسِ مِن أَسرارِهِ ما عُلِّموا *** وَلِشُعبَةِ الكَهَنوتِ ما هُوَ أَعمَقُ فيهِ مَحَلٌّ لِلأَقانيمِ العُلى *** وَلِجامِعِ التَوحيدِ فيهِ تَعَلُّقُ تابوتُ موسى لا تَزالُ جَلالَةٌ *** تَبدو عَلَيكَ لَهُ وَرَيّا تُنشَقُ وَجَمالُ يوسُفَ لا يَزالُ لِواؤُهُ *** حَولَيكَ فى أُفُقِ الجَلالِ يُرَنَّقُ وَدُموعُ إِخوَتِهِ رَسائِلُ تَوبَةٍ *** مَسطورُهُنَّ بِشاطِئَيكَ مُنَمَّقُ وَصَلاةُ مَريَمَ فَوقَ زَرعِكَ لَم يَزَل *** يَزكو لِذِكراها النَباتَ وَيَسمُقُ وَخُطى المَسيحِ عَلَيكَ روحاً طاهِرا *** بَرَكاتُ رَبِّكَ وَالنَعيمُ الغَيدق وَوَدائِعُ الفاروقِ عِندَكَ دينَهُ *** وَلِواؤُهُ وَبَيانُهُ وَالمَنطِقُ بَعَثَ الصَحابَةَ يَحمِلونَ مِنَ الهُدى *** وَالحَقُّ ما يُحيى العُقولَ ويفتق فَتحُ الفُتوحِ مِنَ المَلائِكِ رَزدَق *** فيهِ وَمِن أَصحابِ بَدرٍ رَزدَقُ يَبنونَ لِلَّهِ الكِنانَةَ بِالقنا *** وَاللَهُ مِن حَولِ البِناءِ مُوَفِّق - وهل بلغ شاعر؛ مبلغ شوقى،فى دقة وصف أهل مصر ؛ كما فى بيته الصادق ؟ ليؤكد تأصل الدين؛فى نفوس المصريين جميعا وتوقيرهم لصحيح الدين. قَومٌ وَقارُ الدينِ فى أَخلاقِهِم *** وَالشَعبُ ما يعتادُ أَو يَتَخَلَّقُ - وهل عالج شاعرقضية تطوير الخطاب الدينى كما عالجها شوقى؟؟؟!!!! ما أَجمَلَ الإيمانَ لَولا ضَلَّة *** فى كُلِّ دينٍ بِالهِدايَةِ تُلصَقُ - فشعراء اليوم صاروا أكثر عددا، بعضهم كغثاء السيل، وأبياتهم أوهن من بيوت العنكبوت. والمجيدون مبعدون، بدعوى الحداثة أحيانا، وسيطرة أنصاف المتعلمين، على مقدرات الثقافة أحيانا أخرى، ونحن مطالبون بأيدلوجية مصرية نحن أهل لها وأحق بها. - وأنا أتصفح شعرنا العربى الرصين؛ أتذكر قول العالم الألمانى نيتشة : « إن الماضى يحمل الحاضر فى طياته ويمهد للمستقبل. فالأمة التى تفرط فى ماضيها، مع كل ما يحويه، من تراث قيم، وأدب سام رفيع أى مستقبل ترجوه؟ - ولم يكن شوقى غائبا عن المشهد،الذى نعيشه الآن،بل مشاركا بالنصيب الأوفر. ولوحفظنا ووعينا؛ ما نظمه، لأغنانا ذلك؛ عن مجموعة من الوزارات والهيئات مجتمعة،،وغرس فينا الخير المعنوى، والمادى؛ وجنبنا الكثير من الصراعات، لأن أمير الشعراء؛ فى تقديرى هو»لافونتين» الشرق، وقد كان يطلق على لافونتين معلم الغرب. - والنيل له دوره المهم فى المعتقدات الشعبية، وهو دور، يشابه دور أولياء الله الصالحين، فمياهه على سبيل المثال تبرئ من العقم، وكثرة البكاء عند الأطفال، وتطيل الشعر، وتشفى المحموم، والأمراض الجلدية، والخصوبة والفحولة. - وكان المصرى القديم - قبل الاسلام - يخاطب النيل قائلاً « الحمد لك يانيل يامن تخرج من الأرض وتأتى لتغذى مصر.أنت النور الذى يأتى من الظلام، وعندما تفيض يقدمون لك القرابين وتذبح لك الماشية، ويقام لك الاحتفالات الكبيرة، ويضحك الجميع. حمدا لك أيها النيل! الذى يتفجر من باطن الأرض ثم يجرى ليغذى مصر فهو الذى يسقى الحقول، وقد خلفه رع ليطعم كل دابة وماشية والويل للأرض ومن عليها، حين يقل ماؤه ويجىء فيضانه شحيحا قليلا فهنالك تهلك النفوس وينادى الجميع بالويل والثبورحتى إذا ارتفع وفاض وانتشر الفرح والابتهاج فى كل مكان وضحك الجميع». - وقد قدس المصرى العظيم قديماً (حابى) فى ظل قناعته بالبعث، وكان يقسم امام محكمة الموتى، ألا يلوث هذا النهر فيقول : أنا لم أتسبب ؛ فى بكاء أحد، إننى لم أخطف اللبن من فم الرضيع، إننى لم ألوث ماء النيل «. وهكذا فطن أجدادنا إلى قيمة النهر الخالد ودوره المحورى فى حياتهم، فحافظوا عليه وقدسوه وتفانوا فى خدمته، ورحم الله أمى وجميع الأمهات؛ كانت تحثنا: على تقديس النهر المقدس، فتقول: من يلوث النيل، أو يتبول فيه، فسيفصل ذلك؛ برموش عينيه، يوم القيامة، لذلك مازلت أحس بتلك الرهبة، والهيبة، للآن؛ لذا فدور المرأة أساسى فى الصحوة التى نحن بصددها الآن. خصوصا الصحوة النيلية من كل الوجوه. وأنت إذا أمعنت النظر؛ إلى معصمك،لوجدت وريدك الأزرق،أقرب الشبه إلى تفرعات دلتا نهر النيل،عند مصبه فى البحر المتوسط؛ ثم أقرب الشبه فى تعرجاته إلى القلب،حتى منابعه؛عند بحيرة فيكتوريا؛ فلا عجب أن يكون النيل؛ هو شريان الحياة، ووريدها لمصر، ويمثل لأهلها سرالحياة.ولنبدأ بعزيمة؛ تشبه عزيمة ملحمة؛ قناة السويس، لتنقية النهر المقدس، واستنطاق طاقاته المعطلة. فكما سبق وقلت إن سبعا وتسعين فى المائة من أشجار مصر عقيمة؛ ولو تحولت إلى مثمرة؛ لفقنا دول المنطقة مجتمعة نهضة، ودخلا، وحاربنا الإرهاب، الذى من أخطر أسبابه البطالة. ولكل من يعى. صلاح أمرك للأخلاق مرجعه * فقوم النفس بالأخلاق تستقم وإذا العناية لاحظتك عيونها * نم فالمخاوف كلهن أمان. أقول، هكذا صاحبنا المنوفى المتيم بشوقى خصوصا يبحث فى بطون الكتب. فيمتلئ قلبه وعقله وروحه بما قاله أمير الشعراء، ويعيد صياغة ذلك بأسلوب سهل رصين. وهو يدعونا اليوم أن نستفيد من هذا التراث العظيم، دون اقتصار أو انخداع بشعر الحداثة. وفقنا الله تعالى الى الخير وللحديث صلة. والله الموفق