حدث هذا قبل إحدى وعشرين سنة، وكنت قد غبت سبع سنين عن مدينتي الأثيرة، وعدت لأسجل للتلفزيون حلقات عن الإسلام وقضايا العصر، مع بعض الأعلام والمفكرين في مصر: أنور الجندي، والشعراوي، وصلاح أبو إسماعيل، وعبد المنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، وغيرهم، وكنت ليلتئذٍ في زيارة للشيخ الشعراوي رحمه الله، في فندق قصر المنتزه بالإسكندرية، وتأخر اللقاء حتى منتصف الليل، فعدت إلى زفتى قبيل الفجر، وقررت ألا أزعج أهلي النائمين في هذا الوقت الباكر، فطاب لي أن أسير على شاطئ النيل - مستمتعًا بهدوء الليل، ورقة النسيم - فلم يأت الصباح إلا وأنا مصاب بصدمة (بكل ما تعنيه الكلمة) بعد أن تحول نسيم الفجر الحريري الرقيق إلى شيء خانق، ذي رائحة فظيعة، تنبعث باستفزاز من أكوام الزبالة المحترقة، التي ينبعث منها الدخان على مدار الساعة! كما صُدمت من سوء حال النيل - نعمة الله تعالى على مصر - الذي غطى وجهَه الفضيّ الرائق وردُ النيل، والزبالة، وأسلاك وحواجز لا أدري وقتها لماذا! وبدأت أتساءل في أسىً ومرارة: أهذا هو النيل الذي تغزّل فيه عمي بيرم التونسي: شمسِ الأصيلْ دهَّبِت خُوصِ النخيل تحفة ومتصورة.. في صفحتك يا جميل والناي على الشط غنى.. والقلوب بتميل على هبوب الهوا، لما يمر عليل.. يا نيل أهذا هو النيل الذي كتب عنه أمير الشعراء واحدة من أروع قصائده على الإطلاق: من أي عهد في القرى تتدفقُ ؟ وبأي كفٍّ في المدائن تُغدقُ؟ ومن السماء نزلتَ أم فُجِّرْتَ من عُليا الجنان جداولاً تترقرق؟ وبأي عينٍ؛ أم بأية مُزنةٍ، أم أي طوفانٍ تضيفُ وتفهَق؟ وبأي نولٍ أنت ناسجُ بردةٍ للضفتين... جديدُها لا يَخلق تعيي منابعُك العقول ويستوي متخبطٌ في علمها ومحققُ بل أهذا هو النيل الذي تنزّل أمير الشعر شوقي رحمه الله، وكتب فيه زجلاً عاميًّا : النيل نجاشي حليوه واسمر عجب للونه : دهب ومرمر أرغوله في ايده يسبِّح لسيده حياة بلدنا.. يا رب زيده! أم هو الذي غنى له المغني : يا تبر سايل بين شطين يا حلو ياسمر لولا سمارك جوّه العين ما كات تنور؟! أهذا هو النيل الذي كانت الجلسة عنده (ترد الروح) وكان المذاكرة لا تحلو إلا على شاطئه، ولقيا الأصدقاء لا تطيب إلا بجوار مياهه الهادئة الحنون؟! أهذا هو النهر الذي كانت أسراب السمك النيلية اللعوب تطفو قرب سطحه، لنراها تنساب مجموعات مجموعات، مقتربة من الشاطئ، كأنما تسلم علينا، فإذا عاكسناها بالطوب غاصت، لتعود من جديد، كأنما تخرج لنا ألسنتها، أو تمازحنا؟! أهذا هو النيل الذي كانت تتهادى على صفحته المراكب الوادعة التي تطفو الهويني، محملة بالزلع والحجارة البيضاء والحبوب والقصب وغيرها - بعد أن تفتح الباكْية الوسطى من الكوبرى - في مشهد كان يأسرنا ونحن أطفال؟! أهذا هو النيل الجميل؟! • أيتحول النهر الخالد - هبة الله للمصريين - إلى مقلب زبالة!؟ • ولماذا يعايش أهل بلدي هذا الوضع؟ • لماذا لا ينظفونه، ويزينونه، ويغارون عليه، ويظهرون شكر الله عليه؟ • أفليس هو حياتهم، وهبة الله لهم؟! وسرح خيالي إلى امتداد النيل حيث تصب بعض المصانع فضلاتها، وعوادمها، وحيث يجور الناس على ضفتيه، ليقتطعوا من (طرح البحر) ويبنوا، وحيث يرمي بعض الخلق أوساخهم، ولأتذكر كيف تلقى فيه الحمير النافقة، وكيف تُسمَّم مياهُه، وتكَهرب لصيد ما تبقى فيه من بسارية، وكيف تَملّح شاطئه بسبب الإهمال في مناطق كثيرة من الصعيد، رأيت ذلك كله، ثم رأيت كيف يدلل الآخرون أنهارهم وأسماكهم وشواطئهم، والطبيعة التي خلقها الله لهم! وكيف يحفلون بها، ويفرطون في العناية! ولم أستطع أن أردع جموح خيالي الغبي، الذي صور لي أناسًا يأكلون من طبق شهي، ثم يبصقون فيه، ويأكلون ويبصقون، ويبصقون ويأكلون، حتى تحول طبقهم إلى شيء مُغْثٍ مقزز، لا يرضى أن يأكل منه عاقل، وهم مع ذلك لا يزالون يأكلون! وسامحوني على هذه الصورة المقيتة! أهذا هو النيل إذن؟ أهذه هي بلدي وحبيبتي؟ أهذا هو الحال؟ آه يا زفتى.. إذن فلن أعود إليك أيتها المدينة ما دمتِ على ذلك، وما دام بَنوك بهذا العقوق والإهمال والغفلة؟ هل كان هذا القرار نوعًا من الاحتجاج الصامت، وانخلاع القلب، إشفاقًا على بلدي؟ هل هو خوف من أن يتسع الخرق وتتفاقم الصدمة؟ هل هو هروب وانسحاب؟ هل هو إحباط وانكسار؟ هل هو بحث عن عالم آخر يحترم نفسه ومعطياته وتاريخه وجغرافيته وعلماءه ومبدعيه ونعم الله عليه، ويُجل النيل الذي هو شريان الحياة في هذا البلد المتضخم بالساكنين حول 6 % فقط من مساحته؟ وتذكرت قول سيدة إسبانية لي إن وفدًا جاء لمصر، وركب متن النيل للعشاء، فلم يطيقوا من سوء الرائحة، وقطعوا رحلتهم وعادوا! وذكرت ما شاهدته حول الوادي الكبير في أشبيليةGuadalquivir ذلك النهر الذي لا يبلغ عرضه ثلث النيل، وكيف حولوه إلى جنات يجري بينها النهر، وصيَّروه متعة للعين والعقل في آن معًا.. ركبت قاربًا مع مجموعة من الناس، فبدؤوا يحدثوننا بخمس لغات، إحداها الإنجليزية، وبدؤوا يشرحون: على يمينك حديقة أنفقت عليها ماري أنطوانيت سنة كذا وكذا، ووضعت فيها كذا.. وعلى يسارك قاعدة الصاروخ الأوربي الأول آريان.... على يمينك ثانية مسافةٌ جرى فيها خوان كارلوس ملك إسبانيا مسافة 800 متر، وعن يمينك الآن برج الذهب الذي بناه العرب (يقصدون المسلمين الأندلسيين) وغير بعيد منه ثالث أكبر كاتدرائية في العالم، وكانت مسجدًا للعرب (المسلمين برضه) فيها أعلى مئذنة في أوربا هي الخيرالدا (تبلغ نحو 80 مترًا ارتفاعًا).. كما ترى على اليسار أثرًا روماني من أيام فلان، و.....وهكذا.. أنى التفتّ يمينًا ويسارًا تستمتع بأنواع الشجر المثقل بالثمر الذي لا يقطفه أحد، والماء الجاري برقة، ومعالم الحضارة الإنسانية منوعة الثقافات والتلاقحات.. بهجة حقيقية لا يمكن أن ينساها الإنسان! وتحسرت إذ لا يفارقني مرأى مداخن المصانع في مدينتي على النيل، ومواسير العادم تصب فيه أوساخها، وأحيانًا المجاري لا تحرم الناس خيرها، (والجمايس والحمير) تستمتع بحماماتها فيه، والفلاحات يغسلن الثياب، والمواعين على جانبيه، والشاطئ المهمل يكشف عن جهل شديد، وثقافة بيئية معدومة، وإساءة حكومية فاضحة، وقتل لأهم شريان يسقي مصر في بلد لا تعرف نعمة الله عليها! وأتخيل لو حرم الله مصر هذا الخير العميم، فكيف يكون حالها؟ هل كانت تستحق أن تكون مهد حضارات رومانية وفرعونية وإسلامية باذخة؟ هل كانت ستشهد هذه الأجيال من المصلحين والعباقرة والمبدعين والقادة عبر تاريخها؟ ويستبد بي خيالي الغبي ليفترض أن تقوم يد مجرمة ب(قفل المحبس) عن مصر، فكيف سيكون مصيرنا!؟ كيف لو تحكمت دول حول حوض النيل هامشية - بكل ما تحمله الكلمة من معنى – في الماء، وبنت سدودًا، وأقامت مشرعات بتعاون مطلق من دولة العدو الصهيونية التي يهمها خنق مصر وتجويعها وإعطاشها، هل ستحلون مياه بحجم النيل هبة الله الجليل!؟ محسور أنا يا مصر على خيانة الحزب الوطني ورجاله الذين باعوك بيع الوكس، وأجاعوك وأعطشوك وأذلوك وأفقروك.. محسور أنا من اضطرار مصر لمدح أريتريا وإثيوبيا ورواندا وبوروندي، والتغزل في عيونها الدبلانة، وشعورها المسبسبة، حتى لا نعطش ونتصحر ونفنى! محسور أنا من امتداد الذراع الصهيوني لأفريقيا، وشل الذراع المصرية الطويلة التي وصلت أدغال أفريقيا أيام عبد الناصر.. حين لم يكن يخطر ببال مصري أنه سيأتي عليه يوم يشرف فيه من ماء المجاري، أو (يدق طرمبة) تزوده ببعض الماء العذب، ثم لا تلبث أن تأتي بماء آخر كريه الرائحة والطعم؛ لأنه أكرمكم الله من المجااااااااااري! الله ينتقم من الخائنين، والبائعين، والنصابين، وحكومات القمع المجرمة.. ألا لعنة الله على الظالمين! أبيات متفرقات من نيلية أمير الشعر الحق: أحمد شوقي في النيل العظيم: أَتَت الدهورُ عليكَ، مَهْدُكَ مُتْرَعٌ.......وحِياضُكَ الشُّرق الشهيَّةُ دُفَّقُ تَسْقِي وتُطْعِمُ، لا إِناؤكَ ضائِقٌ.......بالواردين، ولا خوانُك يَنفُقُ والماءُ تَسْكُبُه فيُسْبَكُ عَسْجَدًا.......والأَرضُ تُغْرِقها فيحيا المُغْرَقُ تُعيي مَنابِعُك العقولَ، ويستوي.......مُتخبِّطٌ في علمِها ومُحقِّقُ يَتقبَّلُ الوادي الحياةَ كريمةً.......من راحَتَيْكَ عَمِيمةً تتدفَّقُ متقلِّب الجنبيْن في نَعْمائِهِ.......يَعْرَى ويُصْبَغُ في نَداك فيُورِقُ فيبيتُ خِصْبًا في ثَراه ونِعْمة.......ويعُمُّه ماءُ الحياةِ الموسِقُ وإِليك - بَعْدَ اللهِ - يَرجِع تحته.......ما جَفَّ، أَو ما مات، أَو ما يَنْفُقُ فُتِنَتْ بشطَّيْكَ العِبَادُ، فلم يزل.......قاصٍ يَحُجُّهُمَ، ودانٍ يَرْمُقُ وتضوَّعَتْ مِسْكَ الدُّهورِ، كأَنما.......في كلِّ ناحية بَخورٌ يُحْرَقُ أَصلُ الحضارةِ في صَعيدِكَ ثابتٌ.......ونَباتُها حَسَنٌ عليك مُخلَّقُ وُلِدَتْ، فكنتَ المهدَ، ثم ترعرعَتْ.......فأَظلَّها منكَ الحَفِيُّ المُشْفِقُ ملأَتْ ديارَك حكمةً، مأْثورُها.......في الصخر والبَرْدِي الكريمِ مُنَبَّقُ وَبَنَتْ بيوتَ العلم باذخةَ الذُّرَى.......يسعى لهن مُغَرِّبٌ ومُشَرِّقُ يا نيلُ، أَنتَ بطيب ما نَعَتَ "الهدى".......وبمدْحةِ (التوراةِ) أَحْرَى أَخْلَقُ وإِليك يُهْدِي الحمدَ خَلْقٌ حازهم.......كنَفٌ على مَرِّ الدهورِ مُرَهَّقُ كَنَفٌ "كَمَعْنٍ"، أَو كساحة "حاتم".......خَلْقٌ يُوَدِّعُه، وخَلْقٌ يَطْرُقُ وعليك تُجلَى منَ مَصونات النُّهَى.......خُودٌ، عرائسُ، خِدْرُهنّ المُهرَقُ [email protected]