ظاهرة جديدة لمسناها جميعاً هذا العام فى ذكرى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وهى حنين جارف لهذا الزعيم العظيم ربما سببه الرئيسى أن مصر اليوم تفتقر إلى مثل هذا الزعيم فى وقت هى فى أمس الحاجة إليه. لم يتعرض زعيم لمحاولات التشويه التى تعرض لها عبد الناصر على مدار عشرات السنين ورغم ذلك لايزال فى قلوب جميع المصريين، فلم يكن عبدالناصر مجرد رئيس دولة بل كان زعيم كبيراً بنى مصر الحديثة وأسس لدولة قوية رغم المؤامرات التى تعرض لها. ولو حاولنا أن نعدد انجازات هذا الرجل على مدار 18 عاماً حكم فيها مصر لوجدنا أنها تفوق بكثير ما حققه غيره وما سيحتاج غيره لعقود كى يحقق بعضها. فعبد الناصر هو من أجبر الملك فاروق وحاشيته الفاسدة على الخروج من مصر وأجبر بعدها الإنجليز على الجلاء بعد احتلال عسكرى دام لعقود وهو من أسس لمصر الصناعية وفتح باب التعليم للجميع وفى عهده لم تكن مجانية هذا التعليم مجرد شعار بل كانت واقعاً ملموساً ادراكاً منه بأن الشعوب لا تنهض إلا بتوفير تعليم جيد يمهد لقيام دولة قوية. وفى «الستينيات وما أدراك ما الستينيات» كان حق العمل والمسكن والحياة الكريمة مكفولاً لكل مواطن وكان مستوى معيشة الفرد أفضل كثيراً مما هو عليه الآن. سعى عبدالناصر لتحقيق ذلك من خلال خطط للتنمية قضت بإنشاء مصانع تنهى بقدر كبير اعتماد مصر على الخارج كما قضى على الرأسمالية المتوحشة التى أذلت المصريين فى عهود سابقة وحقق التوازن الاجتماعى بين طبقات الشعب فامتلك الفلاح الأجير الأرض للمرة الأولى فى تاريخ مصر بفضل قوانين الإصلاح الزراعى، والغريب أن بعض من ينتقدون عبد الناصر بشدة اليوم هم من ينتمون لطبقات أنصفها عبد الناصر وانتشلها من الجوع والذل لإيمانه الراسخ بمفهوم العدالة الاجتماعية ولم ير هؤلاء من عهد عبد الناصر سوى عهد حكم الفرد. وكان الأجدى بحكام مصر الجدد الكف عن انتقاد هذا الزعيم التاريخى وتحقيق قدر ولو ضئيل مما حققه، ففى الوقت الذى حقق فيه عبد الناصر مجانية التعليم نجدهم اليوم يتحدثون فى استحياء عن امكانية إلغاء تلك المجانية بدلاً من الحديث عن النهوض بالتعليم وبدلاً من تحقيق قسط من العدالة الاجتماعية نجد ارتفاعاً جنونياً فى الأسعار دون أدنى تدخل من السلطة. وفى الوقت الذى أنجز فيه عبد الناصر على الأرض مشروعات صناعية عملاقة على الأرض نجد غيره يحدثنا عن مشروعات «النهضة» التى تبين فيما بعد أنها و«الفنكوش» سواء. فى الوقت الذى لم يحقق فيه حكام مصر الجدد الكثير لتعزيز الوجود المصرى فى أفريقيا، دانت أفريقيا كلها لعبد الناصر الذى ساهم فى تحرير الكثير من دولها من قبضة الاستعمار وكانت مصر قبلة ثوار افريقيا وغيرهم. كان عبد الناصر صادقاً مع نفسه ومحباً لشعبه وبلده ومؤمنا بعدالة قضيته ولهذا سعى لبناء جيش قوى وأنهى احتكار السلاح بل وسعى لتصنيع السلاح وأطلق مشروعاً للصواريخ ولولا استهداف الصهاينة لخبراء الصواريخ الألمان فى مصر من خلال الطرود المفخخة. وبعد هزيمة 1967 أعاد بناء الجيش ولكن لم يمهله القدر لاستعادة الأرض ولولا ما قام به عبد الناصر من إجراءات عقب الهزيمة مباشرة لما أمكن لمصر النصر فى أكتوبر 1973. ربما أحد أعظم إنجازات عبد الناصر التى لا يتسع المجال لذكرها هو السد العالى الذى دفع بعبد الناصر إلى تأميم قناة السويس لتوفير التمويل اللازم لإنشائه ورغم تعرض مصر لعدوان ثلاثى من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل إلا أنه خرج من هذا العدوان منتصراً. لم يكن عبد الناصر مجرد ظاهرة محلية بل كان انعكاساً واضحاً لدور ومكانة وحجم مصر على المستويين الاقليمى والعالمى ومعبراً عن تلك المكانة التى تتوق مصر إليها اليوم بعد عقود من الانكماش. لن يتسع المجال لذكر إنجازات جمال عبد الناصر هنا ولكن يكفينا أن نقول إن عبد الناصر هو من رفض تعيين والده فى مجلس إدارة شركات المليونير أحمد عبود واستدعاه ونهره بأدب على ذلك وهو أيضاً من مات فقيراً ولم تظهر علامات الثراء على أبنائه من بعده، بل إن هؤلاء الأبناء تعاملوا فى حياته كمواطنين عاديين دون تمييز بينهم وبين غيرهم من المصريين. وفى جنازة عبد الناصر خرج الملايين دون تنظيم حزناً على هذا الرجل الذى فقدته مصر وكانت تلك الجنازة هى الأكبر فى التاريخ ليس لشىء سوى لشعور المصريين بأن عبد الناصر كان واحداً منهم. لتلك الأسباب يشعر المصريون تلك الأيام بالحنين لعبد الناصر وربما وجد كثيرون فى ذكرى وفاته فرصة للتعبير عن هذا الحنين، فمصر اليوم فى انتظار عبد الناصر جديد. تم نشره بعدد 616 بتاريخ 1/10/2012