والمقصود شىء آخر غير جوهر التدين، وربما كان الأمر المقصود أقرب إلى صورة التدين لا أصله ، وإلى الصورة التى تبدو عليها المؤسسات الدينية بالذات ، ففى عصور ما بعد السيد المسيح ، نشأت مؤسسات دينية مسيحية ، أخذت لنفسها سلطة الروح ، وأغارت على سلطة الزمن ، بل واستولت عليها فيما عرف تاريخيا بنمط «الدولة الدينية» أو «الثيوقراطية» ، وهو ما استدعى ثورة عارمة عليها فى سياق التطور الأوروبى ، وأنشأ التصور العلمانى الذى أعاد الكنيسة لسلطتها الدينية ، لاتبارحها إلى شىء من شئون الدنيا وشجونها ، لكن الكنيسة ظلت على كل حال سلطة فى مجالها الدينى ، لها الحق الحصرى فى التفسيرات والأوامر الدينية لمن اتبع ، وهو ما لم يعرفه الإسلام أبدا فى شرعته الصافية ومجراه العام ، فليس من كنيسة فى الإسلام ، ولا فى حياة المسلمين ، وليس من مؤسسة مقابلة ، ولا من سلطة دينية لأحد ، بل ليس من رجال دين ولا طبقة لرجال الدين فى الإسلام ، وإن وجد علماء ومتفقهون يؤخذ عنهم ويرد عليهم ، ومدارس ومذاهب تجذب إليها بقدر الاقتناع لا بوازع الإلزام ، فالعلاقة فى الإسلام مباشرة بين العبد والرب ، وما من وساطة فى الإسلام ، وقد أدى ذلك إلى حيوية عقل واجتهادات خلاقة فى عصور الإسلام الأولى ، ثم رانت قرون من الجمود، تكلست فيها الأفهام ، وتقادمت المذاهب ، وهو ما خلق فجوة تفكير سرت فيها نزعات التقليد وكراهة التجديد ، وساد نقل النصوص ، وطغى على فهم الفصوص. على أن ما يشبه فكرة الكنيسة فى المسيحية ، وإن بفهم آخر ، وجد لدى شرائح من المسلمين الشيعة بالذات ، وجرت إضافة الالتزام بشرط «الإمامة» إلى أركان الإسلام الخمسة المعروفة ، والمقصود حصر «إمامة» المسلمين فى نسل فاطمة بنت الرسول صلي الله عليه وسلم وزوج الإمام على رابع وآخر الخلفاء الراشدين ، وهو اعتقاد يوجد لدى الشيعة وحدهم ، وهم طائفة محدودة من المسلمين المعاصرين ، والذين تنتمى أغلبيتهم الساحقة إلى منازع ومذاهب أهل السنة والجماعة ، ولم يكن لهذا الفرق فى الاعتقاد بإمامة أهل البيت دون غيرهم ، ولا الفارق فى التصديق أو التكذيب لحديث «الغدير» المنسوب لنبى الإسلام، والذى ينقل الإمامة من النبى إلى على ونسله ، لم يكن للفارق أن يصنع كنيسة أو ما يشبهها فى حياة المسلمين الشيعة ، لولا ظروف تاريخية لا اعتقادية ، جعلت شيعة الإمام على بن أبى طالب يلجأون إلى «التقية» قرونا ، وبعد ما وقع من مذابح وابتلاءات كربلائية ، وخذلان للإمام الحسين سيد الشهداء ، فقد كان الشيعة موضع مطاردة من الخلافة «الأموية» ثم «العباسية» ، وحتى نهاية «العثمانية» ، وكان على الشيعى اتقاء للهلاك أن يعيش حياتين ، أى أن يبدو سنيا فى الظاهر ، فيما يبقى شيعيا بالباطن ، أى أن يبدى الولاء لسلطة الخلافة الدنيوية فى الظاهر ، وأن يرتبط بسلطة أخرى «شرعية» فى الباطن ، وأن يربط حياته الدينية برجل دين شيعى ، يدفع له الخمس ، ويتلقى عنه التقليد والفتوى الدينية ، وهكذا نشأت سلطة هرمية من رجال الدين الشيعة ، ودامت القصة قرونا ولا تزال ، وبدت السلطة الدينية الشيعية كأنها «كنيسة» إسلامية . وكاتب السطور لا يكفر أحدا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فليس التكفير من حق أحد كائنا من كان ، ولم يعطه النبى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام حتى لنفسه ، فلم يكفر مسلما حتى لو كان منافقا ، وفى ذلك إشارة مباشرة لما ينطوى عليه التدين الإسلامى من علاقة مباشرة للعبد بالرب ، ودون وساطة ولا كهانة ، وقد تعرض هذا المعنى الصافى لتحريف وتجريف على أيدى جماعات صارت تكفر الناس بالجملة ، وتكفر الشيعة بكافة طوائفهم وفرقهم ، ولا تشير فى نقد التدين الإسلامى الشيعى إلى عيب وجود «سلطة دينية» ينكرها الإسلام ، وتشبه وضع «الكنيسة» فى المسيحية ، بل تسعى مع تكفير الشيعة إلى إقامة سلطة دينية سنية هذه المرة ، وهذا خلل مريع فى الاعتقاد والتفكير والسلوك ، فالمسلم الحق لايكفر ناطقا بالشهادتين ، وخطيئة التكفير يرتكبها الغلاة من الشيعة أو من السنة ، وحسابهم عند الله علام القلوب والغيوب، أضف إلى ذلك خطيئة دينية أخطر يرتكبها الفريقان ، وهى الاعتقاد فى ضرورة وجود سلطة دينية ما ، وقد أوضحنا السياق الذى مهد للفكرة غير الإسلامية فى حياة الشيعة ، وإن كان الأغرب أن تظهر الآن على لسان جماعات من غلاة الأصوليين السلفيين، صحيح إنهم لا يقولونها هكذا مباشرة ، لا يقولون لك أنهم يريدون دولة دينية أو سلطة دينية ، فهم يعرفون أن الفكرة لا أصل لها فى ملة الإسلام ، ولذلك يلجأون إلى صور من التحايل ، كأن يدعو سلفيون مجهولون فى مصر إلى إنشاء ما يشبه «هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى المملكة السعودية ، وقد تبرأ كل مشايخ السلفية المعروفين فى مصر من الفكرة التسلطية الغريبة ، وإن بدت تطبيقاتها مرئية دامية ، وعلى نحو ما جرى فى عملية قتل سلفيين مغرر بهم لشاب كان يمشى مع خطيبته فى مدينة السويس (!) ، ولا تبدو الفكرة الغريبة الدموية يتيمة على أى حال ، فثمة قطاعات محسوسة من السلفيين الجهاديين تسعى لفرض سلطتها بالعنف حيث حلت، وقد يكون من مزايا الديمقراطية أنها تدفع غالب الأصوليين السلفيين إلى العمل السلمى، وتلك ميزة معقولة فى ذاتها ، غير أن الديمقراطية ذاتها تظهر مدى سيطرة أفكار غير إسلامية على أدمغة بعض السلفيين ، نقول «بعض» حتى لانقع فى خطأ التعميم ، فهذا البعض يدعو إلى «تمسيح» الممارسة الإسلامية عمليا ، أى جعلها كالممارسة الكنسية سواء بسواء ، وهذه مفارقة عجيبة ، فهؤلاء ذواتهم يظهرون صنوفا من التعصب ضد المسيحيين ، ويسعون لاحتذاء الممارسة الكنسية فى الوقت ذاته ، خذ عندك مثلا بعض آراء كبار السلفيين فى اللجنة التأسيسية للدستور المصرى الجديد ، واقتراحات من نوع وضع عبارة «السيادة لله» محل عبارة «السيادة للشعب» ، وهى دعوة مباشرة للحكم بالحق الإلهى على الطريقة الكنسية فى أوروبا العصور الوسطى ، وخذ عندك مثلا دعوة بعضهم إلى إنشاء ما يسمونه بالمحكمة الشرعية العليا ، أى محكمة من رجال الدين على طريقة محاكم التفتيش الكنسية فى العصور الوسطى ، وخذ عندك مثلا ما يسمونه «مرجعية الأزهر» ، وكأن الأزهر سلطة دينية أو كنيسة إسلامية ، أو كأن شيخ الأزهر هو قداسة البابا