من يحكم مصر يجب أن يدرس تاريخها و جغرافيتها السياسية ، و المصريون القدماء صانعو الحضارة عرفوا حدود مصر الحقيقية و أدركوا أنها ليست الحدود الجغرافية الضيقة المباشرة لمصر ، و لكن العمق الاستراتيجى المصرى يمتد إلى خارج حدودها بكثير ، فهو يمتد شرقا حتى نهر الفرات ، و غربا حتى المغرب و جنوب حتى حوض النيل و أواسط افريقيا ( و كل ما يؤثر فى منابع النيل ) مصدر الحياه على أرض مصر ،و شمالا إلى جزر بحر إيجة "قبرص و كريت " و فى الشمال الشرقى حتى سوريا و فى الجنوب الشرقى حتى بلاد بونت " اليمن و القرن الأفريقى " ، أى مداخل البحر الأحمر . لذا نجد الملوك فى مصر القديمة منذ فجر التاريخ ، أدركوا مدى أهمية تأمين عمق مصر الأستراتيجى فى هذه الجوانب كلها ، فأرسلوا الحملات التى تؤثق العلاقات و تأمن الحدود عند "مضيق باب المندب " ، فى المنطقة التى اسموها "تا-نتر" أى أرض الإله ، لما كان لها من أهمية خطيرة فى الأمن القومى المصرى ، حيث تمثل مدخل البحر الأحمر فى ما يُعرف ببلاد بونت " اليمن و القرن الافريقى " ، فنجد النصوص منذ أيام الملك خوفو فى الأسرة الرابعة من اسرات الدولة القديمة و قد سجلت حملات لبلاد بونت و كذلك منذ عصر الملك "ساحورع " فى الاسرة الخامسة ، كل هذا قبل مئات السنين من حملة سجلتها الملكة حتشبسوت فى الاسرة الثامنة عشرة من أسرات الدولة الحديثة ، كذلك اهتم المصرى بتامين الحدود الشرقية بإرسال من يؤمن من غزوات البدو منذ الدولة القديمة كذلك و قد أطلقوا على الطريق الذى سلكته الجيوش المصرية فى سيناء ، اسم " طريق حورس " ، فكانت الجيوش تخرج لتأمين الحدود عبر التاريخ من هذا الطريق ، و نجد النصوص تسجل حملات للجيش المصرى "أول جيش نظامى فى التاريخ " منذ الدولة القديمة ، مثل نصوص القائد ونى ، قائد الملك ببى الاول فى الاسرة السادسة من اسرات الدولة القديمة ، و الذى سجل على جدران مقبرته انه قاد الجيش ضد ما اسماهم ب"عاموحِريوشع " أو القاطنين فوق الرمال (بدو) ، و يذكر فى النص اخلاقيات الجندية المصرية التى لا تعتدى على عُزل أو تسلب و تنهب ممتلكات السكان فى الاماكن التى تحارب فيها ، و النصوص تتوالى فى العصور اللاحقة و من أشهرها نصوص الملك رمسيس و معركة قادش الشهيرة التى حارب فيها الحيثيين فى الشرق و معارك رمسيس الثالث ضد شعوب البحر و كذلك معركة ماجدو الشهيرة التى ترجع لعصر الملك تحتمس الثالث الذى وصل فى حروبه حتى الفرات مطارداً المجموعات التى تهاجم حدود مصر الشرقية ، و من قرأتنا فى دبلوماسية تحتمس الثالث نجد أنه حقق انتصارات عسكرية ولكنه فى ذات الوقت استعمل الذكاء السياسى فى استقطاب هؤلاء الأعداء و تجنب مهاجمتهم لمصر فى المستقبل ، فنجده يجلب ولى العهد من كل منطقة من المناطق التى وصل إليها و يقوم يتربيتهم و تعليمهم فى البلاط الملكى المصرى ، حتى إذا ما عادوا لبلادهم ليتولى الحكم ، يكونوا على عهدٍ و ولاء لمصر التى تعلموا فيها . و استمرت الدبلوماسية المصرية تساند العسكرية و السياسة فى دعم تأمين عمق مصر الأستراتيجى عبر العصور ، خاصة فى عصر الامبراطورية المصرية فى الدولة الحديثة ، حيث كانت مدن الشام تابعة للحكم المصرى و للثقافة المصرية ، و هكذا استخدام المصريين القدماء لما يُسمى بالقوة الناعمة فى تأمين العمق الاستراتيجى ، فمن خلال دراستنا لتاريخ و آثار اليمن مثلا ، نجد وجود ملامح للثقافة و الديانة المصرية هناك ، فقد تم الكشف عن مدينة "مِعن مِصرن" أى معين المصرية التى كان بها عبادة مصرية الملامح و معابد ، مما يدل على التواصل الثقافة مع مصر ، كذلك نجد أن الملكة المحاربة إياح حتب والدة أحمس طارد الهكسوس قد تواصلت مع جزر بحر إيجة فى الشمال لجلب المدد للجيش أثناء الحرب الطويلة ضد الهكسوس و كان من القابها المُسجلة على الآثار " سيدة جزر بحر إيجة " !!! لا تتعجب حينما تعرف أن الملك المصرى "نيكاو" من ملوك الأسرة السادسة و العشرين فى العصر المتأخر ، قد أرسل حملة بحرية أسكشافية من عدة سفن و بحارة مصريين و أغريق ، للدوران حول ما يُعرف برأس الرجاء الصالح . و تسجل النصوص و النقوش ، الحرص على العلاقات مع بلاد "كوش " ( أثيوبيا الأن ) ، و الحرص على ضمان الولاء لحكام الحدود ، فكان من القاب حاكم النوبة " ابن الملك فى النوبة " ،كذلك فى دراستنا لآثار الخليج العربى وجدنا اختام مصرية هناك و آثار تدل على العلاقات الدبلوماسية و التجارية مع مناطق الخليج العربى قديما و كذلك مع بلاد الرافدين "العراق " و مع الجزيرة العربية ، فهل تعلم يا عزيزى القارىء أن هناك فى قلب المملكة العربية السعودية تم الكشف عن بقايا معابد مصرية و آثار مصرية خالصة الملامح فيما عدا بعض السمات المحلية ، مثل ما تم الكشف عنه من تماثيل "حورس باغرد " و الشمش المجنحة و الثور المقدس المصرى فى مدينتى الفاو و تيماء فى السعودية !!!. و ظل المصريون القدماء حريصين على تأمين العمق الأستراتيجى المصرى "الحدود البعيدة " بكافة الطرق و الوسائل عبر تاريخهم الطويل ، لضمان الأستقرار و حماية الأمن القومى المصرى و الحدود المصرية ، و تهئية الظروف لبناء حضارة قامت على الضمير و الأخلاق و إرساء قيم العلم و العمل و التنظيم و الإدارة الرشيدة .