ما يحرك مصر هو العنوان القومى العربى، فمصرية مصر هى ذاتها عروبة مصر بالنص والحرف، ودائرة الأمن المصرى هى دائرة الأمن العربى ذاته، وحين تدعو مصر لحلف عسكرى عربى وقوة عربية مشتركة، فهى تدرك غريزيا ما يجرى من تحولات متسارعة فى المنطقة، فثمة خوار محسوس فى الدور الأمريكى، وثمة تراجع فى ثقة الأطراف الخليجية بجدوى التعويل على القوة الأمريكية وتابعها «التركى»، وثمة توحش فى الدور الإيرانى، وهو ما يبرز الحاجة إلى دور مصرى وازن، خاصة مع الجهد الدائب فى تقوية الجيش المصرى. دار الزمان دورته الكاملة، وثبت أن مصر عبد الناصر كانت على حق بتدخلها العسكرى فى اليمن انتصارا لثورته ضد الحكم الإمامى الغارق فى التخلف باسم الدين. وكانت السعودية وقتها ضد التدخل المصرى، وكان ذلك مفهوما، فقد كان عبد الناصر يقود وقتها ثورة عربية عارمة ضد الرجعيات العربية، وبذل الحكم السعودى ما فى وسعه لإحباط الدور المصرى، لكن الجمهورية اليمنية الوليدة انتصرت فى النهاية، وفكت حصار الملكيين الطويل من حول صنعاء، وجددت الجمهورية شبابها بعد وفاة القائد عبد الناصر، وشهد اليمن طفرة تحديث كبرى مع حكم إبراهيم الحمدى، والذى لم يستمر سوى ثلاث سنوات، جرى بعدها اغتيال الحمدى، ثم إحباط آخر ثورة الناصريين اليمنيين فى أكتوبر 1978، وإعدام القادة الثوريين للجمهورية المتعثرة، وبدء حكم الشاويش على عبد الله صالح بمباركة ودعم سعودى وبدفاتر شيكات مفتوحة، ثم تحطيم حيوية وتجانس المجتمع اليمنى، والذى لم يعرف أبدا خلافا ولا صداما دينيا بين الغالبية من الشوافع والأقلية من الزيود، فالشافعية مذهب سنى متفتح، والزيدية أقرب مذاهب آل البيت إلى السنة، لكن كثافة التدخل التخريبى فى اليمن، وعمليات شراء الذمم والولاءات، أدخلت المجتمع اليمنى فى حال فشل وتمزق ومتاهة، وبالتوازى مع تحويل اليمن إلى دولة فاشلة، فقد جرى "تسليف" أبناء المذهب الشافعى، وتحويل المذهب الغالب إلى سلفية وهابية مغلقة، تكاثرت على أطرافها حركات السلفيين والإخوان وصولا إلى «القاعدة» و«داعش»، فيما جرى «تشييع» المذهب الزيدى، بدعم إيرانى هائل، وتنمية ظاهرة «البيت الحوثى» فى أوساط الزيدية، والسعى إلى إمامية جديدة وراثية "إثنى عشرية" هذه المرة، وبدء سلسلة حروب طائفية قبلية انطلاقا من «صعدة» مركز الحوثيين، الموالين لإيران، وإلى أن جرى إحباط الثورة الشعبية اليمنية الجديدة فى 2011، وخلق وضع شاذ بما أسمى بنصوص المبادرة الخليجية، والتى استبقت الحصانة والوجود المؤثر والسرقات بعشرات المليارات للشاويش على عبد الله صالح، وتركت الرئاسة الانتقالية لنائبه المهزوز عبد ربه منصور هادى، وتركت لأتباع صالح نصف عضوية البرلمان ونصف الحكومة، إضافة لأقسام غالبة من الجيش الموزع قبائليا وطائفيا وجهويا، وإضافة للسيطرة المتفشية لعائلة صالح على الموارد الطبيعية لليمن ومؤسساته الإدارية الهشة، واختلاط عسكر الجيش بميليشيات الحوثيين والقاعدة والإخوان والحراك الجنوبى، وبما انتهى باليمن إلى تحطيم كامل للدولة، وهو ما شجع الحوثيين على نقل البندقية من كتف إلى كتف، والتحالف مع غريمهم السابق على عبد الله صالح المنتمى بالمولد إلى الطائفة الزيدية، وخوض حرب شراء ولاءات سهلة جدا فى البيئة اليمنية المتهتكة، لعبت فيها إيران دورا مركزيا، حاصر الدور السعودى ودفاتر شيكاته، وخلق وضعا خطيرا يهدد بقاء المملكة السعودية نفسها، وهو ما دفع السعودية إلى إلقاء الكارت الأخير، وشن حرب جوية لتفكيك شبكة الحوثيين المتحالفين مع على صالح رجل السعودية السابق. تلك هى الصورة اليمنية باختصار غير مخل، والتى خلقت المفارقة الراهنة فى حرب اليمن الجديدة، فالسعودية التى وقفت وناهضت تدخل القاهرة العسكرى فى اليمن قبل أكثر من خمسين سنة، هى ذاتها السعودية التى بادرت بالتدخل العسكرى الآن، وسعت إلى عون مصرى عسكرى مؤثر يقلب الموازين، ولم تتردد القاهرة هذه المرة أيضا فى التدخل، ونشر قواتها الجوية والبحرية، ومع استبعاد التدخل البرى، فالدور المصرى أيام عبد الناصر كان الفاعل الأول فى بناء الدولة اليمنية، ومع غياب الدور المصرى عربيا، وبالذات بعد توقيع معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، تآكلت الدولة اليمنية بحسها الجمهورى الحديث، وتحولت إلى مخزن صدامات وطوائف متنافرة، تغير ولاءاتها بحسب نوع دفاتر الشيكات، وتتحول إلى دولة فاشلة، تتنكر لميراث الحكمة اليمنية، وللتجانس الفريد الذى كان عليه أهلها، ولضم الجنوب إلى الشمال فى دولة موحدة، وكما كانت مصر عبد الناصر هى النصير الأقدر للجمهورية اليمنية فى الشمال، فقد كانت هى أيضا قوة الدفع الأعظم فى حرب تحرير الجنوب من الاستعمار البريطانى، لكن انهيارات مصر بعد حرب أكتوبر 1973، غلت يد الدور المصرى، وجعلت صورته المتألقة شيئا من ذكريات التاريخ، تحفظها الطبقة اليمنية المثقفة باعتزاز عظيم، وتتذكر دم الشهداء المصريين الذى أهدروا بركته، وإلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، وحققت نصرها الأول بخلع مبارك فى 11 فبراير 2011، وكانت المصادفة البليغة عنوانا على رغبة عميقة فى اليقظة بعد اتصال الركود لعقود، فقد بدأت الثورة الشعبية اليمنية فى نفس يوم خلع مبارك، وكما كانت الثورة المصرية الشعبية، وموجتها الأعظم فى 30 يونيو 2013، كما كانت الثورة المصرية تجهد لوصل ما انقطع مع الثورة المصرية الأم فى 23 يوليو 1952، كانت الثورة اليمنية أيضا تحاول وصل ما انقطع مع ثورة اليمن الأم فى 26 سبتمبر 1962، ومع وعى عميق بفوارق الزمن والظروف، فقد مضى زمن ثورات الضباط الأحرار، وحل زمن ثورات الناس الأحرار، والتى تواجه هذه المرة بتعقيدات شائكة متشابكة، بينها إمكانية الانقلاب عليها وتزييف وعى جمهورها، والنمو السرطانى لتيارات اليمين الدينى الطائفية المتخلفة، والتى تلعب على وتر افتعال حروب السنة والشيعة، وهى ذاتها سياسة الاستعمار القديمة الجديدة، والقائمة على مبدأ «فرق تسد»، وبهدف التدمير الذاتى للأديان والأوطان، وتلقى هوى ودعما فى نظم حكم قائمة على الجانبين الإيرانى والعربى الخليجى، وهو ما قد يصح أن يتنزه عنه الدور المصرى، والذى يتلمس خطاه الجديدة الآن على الساحة العربية بعد غياب طويل، فمصر ليست بلد طوائف ولا مذهبيات ضيقة متخلفة، وما يحركها هو الحس القومى العربى، والذى لا ينفصل عن معركة استرداد الإسلام من يد جماعات اليمين الدينى الإرهابى المتخلف، وأيا ما كانت عناوينها الطائفية، وادعاءاتها السنية أو الشيعية. نعم، ما يحرك مصر هو العنوان القومى العربى، فمصرية مصر هى ذاتها عروبة مصر بالنص والحرف، ودائرة الأمن المصرى هى دائرة الأمن العربى ذاته، وحين تدعو مصر لحلف عسكرى عربى وقوة عربية مشتركة، فهى تدرك غريزيا ما يجرى من تحولات متسارعة فى المنطقة، فثمة خوار محسوس فى الدور الأمريكى، وثمة تراجع فى ثقة الأطراف الخليجية بجدوى التعويل على القوة الأمريكية وتابعها «التركى»، وثمة توحش فى الدور الإيرانى، وهو ما يبرز الحاجة إلى دور مصرى وازن، خاصة مع الجهد الدائب فى تقوية الجيش المصرى، واسترداده لمواقعه المتقدمة على حافة الحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، وإنهائه لمناطق نزع سلاح سيناء المترتبة على المعاهدة المصرية الإسرائيلية، وتقليص ميراث التبعية لواشنطن، وتطوير المقدرة الدفاعية والهجومية للجيش المصرى بانفتاحات السلاح على روسيا والصين، وكل ذلك مما يؤهل مصر تدريجيا لاستعادة دورها المغيب، ويفسر استجابة القاهرة السريعة لطلب السعودية بالتدخل فى اليمن، وضمن سياق وائتلاف عربى واسع نسبيا، يكاد يرسم ملامح «بروفة» الفكرة المصرية الداعية لإنشاء حلف عسكرى عربى، ثم أن دور مصر بالذات هو الذى يرفع الصفة الطائفية المقيتة عن التدخل فى اليمن، فمصر تدافع عن مصالحها المباشرة حين تذهب إلى اليمن، وتطور التكامل الوظيفى المستهدف بين فوائض القوة العسكرية المصرية وفوائض المال الخليجى، وتصوب عملية إنقاذ اليمن، فليست لمصر مصلحة ولا هوى فى العداء مع أى طرف يمنى داخلى، بل تريد استعادة اليمن بكامله لأولوية عروبته، وحفظ وحدة ترابه وناسه، واستعادة تجانسه الثقافى الفريد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة، وهذا ما أتصور أن تكون السياسة المصرية واضحة قاطعة فيه، منعا لاختلاط الأوراق، فالقاهرة هى التى وضعت حجر الأساس للجمهورية اليمنية زمن جمال عبدالناصر، ودورها الجديد هو وصل ما انقطع، ودون تدخل ولا تحيز لطرف على حساب آخر فى تفاعلات اليمن الداخلية.