القرآن كلامٌ اللهِ.. والعربيةٌ الفصحى كلامٌ البشر - وهذا العنوان.. مما أصرّوا على خلافه، أصروا على أن القرآن الكريم.. نزل بالعربية... والحقّ أنّ أهميّة الرأى - أيَّ رأى - تأتى من قوة دليله أو تحليله أو تعليله، وهذا العنوان الذى أوردته - لى عليه - ستة أدلّة - هى: 1- القرآن.. لم ينزل بالعربية الفصحى - التى لم تُوجَدْ إلا قبل مئتى سنة، قبل الإسلام - على يدى الشاعر: امرؤ القيس، سبقه المهلهلٌ بنٌ ربيعة.. لأن القرآن كلام الله، وكلام الله إحدى صفاته، وصفات الله قديمةُ.. قِدَمَهٌ الذى لا حدودَ له فكلامُهُ تعالى قديم - قدَماً لا حدودَ له، فهل ينزل القديم بالحادث ؟ أأفاد الجاحظ من لغة طه حسين - أم العكس ؟- الجواب.. واضح (وكلاهما عظيم). 2- الذى يستعين - بغيره فى الفكر أو فى اللغة، أو فى أيَّ مجال هو غير كامل، والله جلّ وعلا كامل. ولذا.. يستحيل أن يستعين بالبشر. 3- فصحى القرآن.. حٌجّةٌ على فصحى العربية: لأنه إذا اختلف اللغويون أو النحويون على صوت كلمة، أو معناها، أو إعرابها، فى سياقها.. رجعوا إلى فصحى القرآن فما يَرِدٌ فيها هو الفصل، لأن فصحى القرآن كاملة، أمّا فصحى العربية فناقصة: ناقصة من حيثٌ أنه لم يَجمع منها أكثر من تسعين بالمئة (90%) لأسباب أوردتها فى كتابى:(العربية الفصحى - مرونتها، وعقلانيتها، وأسباب خلودها) - الذى يطبع الآن فى دار المعارف / القاهرة. 4- القرآن.. عندما نَزَلَ - نَزَل فيه أكثرٌ من مئتى كلمة وعبارة لم تكن معروفة فى العربية الفصحى (واستفادتها - المعاجم من القرآن) فهل الذى يكتب بلغة يأتى بألفاظ ليست من تلك اللغة (إلا أن يستعيرها من لغة أخرى) وتنزه الله عن ذلك، وليست مما يأتى من طريق الاشتقاق، أو تطور معانى الكلمات، فإذن هو مستقلّ فى نزوله، وفى لغته عن العربية. من هذه الألفاظ - ضِيزى - عِضين - زرابيّ - استبرق - أبابيل - سجّيل) لم تكن هذه الكلمات معروفة فى العربية. ومثلُها كثير ... بل-من جهة أخرى -ما معنى (ومن شرَّ غاسقٍ إذا وَقبَ) -؟- ما معنى الغاسق - وما معنى وَقَبَ ؟- لم يتفق المفسرون، على تفسير لهما. لأنهما من فصحى القرآن - أصلاً - ومن المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله، وإنما البشر يحُسّون بوقعِه، وتأثيره الموحى على القلوب والعقول، ومثلهما ما لا يقل عن مئة آية. 5- ومن جهة أخرى - لو كان القرآن نزل بالعربية - فكيف نفسّر قول الله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا سنسْتدرجهم من حيثٌ لا يعلمونَ وأملى لهم إن كيدى مَتينُ) - (الأعراف -182) - ومثلها عشرات العبارات والآيات. الله - الرحمنٌ الرحيم - الغفورٌ الودود - يستدرج...ثم يٌملى.. ثم يعذّب ؟- فأين عدْلهٌ؟- وأين قوله تعالى: (ولا يظلمٌ رَبٌّكَ أحداً) - (الكهف - 49) - - لا تفسيرَ لذلك إلا إن معنى - الاستدراج - والإملاء - والكيد - هنا غير معانيها فى العربية .. وإلا - فالظلم واقع من الله تنزّه عن ذلك. والصواب أن معنى هذه الكلمات الثلاث هو: سنستدرجهم: سنتركهم يعملون ما يشاءون. أملى لهم: تمضى حياتهم كما هو وارد فى القوانين التى وضعها الله - سبحانه للكون والبشر - كيدى: قضائى ومن حيثٌ لا يعلمون: من حيثٌ يتبعون أهواءهم. ومثلها عشرات الآيات... - ومن المحقق.. أن كلّ لهجتين للغة فيهما من الألفاظ المشتركة، ألفاظ تؤدى كلُّ منها معنى مختلفاً عما فى الأخرى بل إن طه حسين استعمل «هَبْ» بمعنى (افرض)- قال = هبْ أن الأمرَ... بينما استعملها الرافعى بمعنى (اعتبرْ) - قال: هبْ الأمر... - احتراس (1) - قد يقال: وكيف تٌفسّر قول الله تعالى: (إنّا أنزلناهٌ قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون) - (يوسف -2)، والجواب: أن كلمة (عربي) أصلها فى لغة العرب: الفصيح البليغ. وليس الفرد من هذا الجنس العربى، فهذا المعنى إنما هو معنى متأخر - تطوّر من المعنى الأصلى، لأن الذين عرفوا بالفصاحة، والبلاغة، فى هذه اللغة، فى القديم، هم هذا الجنس العربى، فتولّد من المعنى الأول هنا - المعنى الثانى، وإن كثيراً من الألفاظ تحمل معنيين.. إلى عشرة، بعضها تولد من بعض لعلاقة ما بين هذه المعانى علاقةٍ معروفة فى قوانين تطور معانى الألفاظ. - احتراس (2): - قد يقول قائل: هذا يؤدى إلى فوضى معانى الألفاظ فى القرآن، فلكلًّ أن يُفسّر الكلمة على هواهٌ، مدّعياً أن معناها فى القرآن مختلف عن معناها فى العربية - فَنٌجيب بأن هاهنا ضابطاً نحتكم إليه: فالكلمة التى ترد فى عبارة أو آية فى القرآن -(ومعناها - كما فى العربية)-ويٌبقى معناها ومعنى الآية لا يخرج على - العدل - العامّ فى القرآن - ولا إلى معنى الظلم - هى كلمة - معناها فى القرآن هو معناها فى العربية، أمّا الكلمة التى تردَ فى القرآن فيخرج معناها عن سياقها، (إذا أخذَ معناها كما هو فى العربية) عن العدل إلى الظلم - فمعناها فى القرآن يختلف عن معناها فى العربية - قطعاً. وعندئذٍ.. يختار لها معنى يعيدها إلى أن تستقيم مع عدل الله - سبحانه - مع البشر، ومع الكون كله. 6- اذن.. فالعربية الفصحى ليست إلا -خادمة- لفصحى القرآن، يفسر بها معظم القرآن، وتستخرج بها أحكامه، ويعرف بها بعض إعجازه، (أما أقل القرآن، وهو -المتشابه- فلا يفسر أو يقترب من تفسيره إلا بهذا المنهج وبهذه الرؤية اللتين عرضتا آنفا، لأن فصحى العربية غير فصحى القرآن، وبغير هذا المنهج وهذه الرؤية يظل المتشابه عصيا على التفسير، ويظل شيء من كتاب الله، وإن قل، غير مفهوم، بسبب تناقضه ظاهريا، مع غيره من القرآن نفسه -كما اوضحت فى الرقم الخامس- كما ظل منذ بدأت التفاسير خطواتها الأولى، فى منتصف القرن الثانى - الى اليوم. خاتمة - من كلّ هذا.. يتبين لنا أنّ فٌصحى القرآن غير فصحى العربية، وإن اْلتقاءهما على تسعين بالمئة (90%) من الكلمات (مع تَفوٌّق - ضمّ الكلمات -بعضها لبعض فى القرآن - عنها فى العربية).. لا يعنى أنهما لغة واحدة، لما أوردناه من فروق بينهما تميّز فصحى القرآن - عن فصحى العربية، ولذا.. فثَمّةَ كلمات وآياتُ فى القرآن لا يفهم معناها إلا عند تفسيرها بمعانٍ غير معانيها فى العربية، لأنها من المتشابه.. والله تعالى أعلم.