ادعاء العبط عادة قديمة .. خاصة عندما تحيط بك الكوارث والازمات .. فلا تجد مناص سوي ادعاء العبط .. لعلك تنجو أو تفلت من العقاب. لكن مع استمرار الأزمات والكوارث استمر ادعاء العبط .. حتي بات جزء من الشخصية المصرية . فحتي كلمة "بتاع" هي جزء من مفردات الاستعباط، نحاول بها أن ندعي المعرفة لكن بدلا من أن نعترف بجهلنا نستعبط وندعي النسيان. أما إذا حاصرنا أحد هؤلاء الذين يصرون علي الصواب "المحرج"، فنلجأ إلي الاستعباط بادعاء أن الخطأ الذي نفعله بضمير ميت هو أمر مستباح ومعترف به ويفعله الجميع بقولنا "ما الناس كلها بتعمل كدا". من يبصق في الشارع يدرك أن فعلته جريمة صحية لكنه بيستعبط ويفعلها ومن يلقي بمخلفاته من شباك السيارة يعلم أنه يرتكب جريمة بيئية لكن ما كل الناس بتعمل كدا، ومن يكسر إشارة المرور يبرر لنفسه أن كل الناس بتعمل كدا، تسأل المواطن الذي يدفع رشوة للموظف لماذا ترشوه فيقول لك عادي كل الناس بتعمل كدا. الضابط الذي ينفذ القانون يتباهي في أحيان كثيرة أمام الناس بمخالفة القانون فأغلب من يضعون "الفيميه" علي زجاج السيارة هم ضباط شرطة، وأغلب من يضعون علامة الميزان على اللوحات المعدنية لسياراتهم هم قضاة ومحامون. حتى بعض وكيلاء النيابة المعنيين بالإشراف علي تطبيق رجال الشرطة للقانون باعتبارهم وكلاء للنائب العام تجد بعضهم يضع مسدسه في حزام البنطلون تشبها بضابط المباحث. المدرس الذي يلقن العلم والتربية للأطفال تجده يتغاضي عن هزار ثقيل ومهين من طفل يأخذ درس لديه، لكنه يتحول إلي مربي أجيال حازم ويفصل طفل آخر لأنه تحدث إليه بطريقة غير لائقة، نفس هذا المدرس الذي قد يضبط طفلا يغش، يمرر برشامة لطالب آخر يداوم على دفع مقابل الدروس الخصوصية. الاستعباط حالة عامة نخرت في ثقافتنا وتملكت من مفرداتنا وأكلت نخاع كرامتنا وتربعت علي أطلال إنسانيتنا. عادي جدا أن يرفض الفلولي أي شماتة من إخواني في وفاة جنودنا في سيناءن لكنه كان أول الشامتين في مقتل المئات في رابعة أو الحرس الجمهوري. وبالمقابل يتغاضى الإخواني عن كل مساوئ رئيسهم مرسي، وثم يكبر المشاكل نفسها التي تحدث في عهد رئيسهم السيسي. عادي جدا أن تجد من يدافع عن نظام مبارك ويدافع عن الإخوان ويكتشف فجأة أنه ابن المشروع الإسلامي أو ينافق ليحصل علي مصلحة (عقد في الإذاعة يدر عليه الملايين)، من نظام مبارك، لينافق ويحصل علي مصلحة (امتياز اعلانات في شبكة الإذاعة) من نظام الاخوان. ومع ذلك فما سبق ذكره ليس قمة الاستعباط في نظري، بل قمته تكمن في قبول الناس لهؤلاء ومتابعتهم والإعجاب بأدائهم فأنت هنا تقف تحديدا عند المستوي الأعلي من الاستعباط. لماذا نذهب بعيدا أليس وجود توفيق عكاشة علي الشاشة استعباط ما بعده استعباط، أليس متابعته استعباط، أليس ادعاء أننا نشاهده لنضحك عليه قمة الاستعباط. لا تتعب نفسك وتبحث عن مستعبط يكفيك نظرة أمام المرآة لتري بأم عينيك مصدر رئيسي للاستعباط في مصر، نعم نحن كلنا هذا الرجل. عندما يعلم سفيرنا في البحرين أن مواطنا مصريا اسمه عبدالعزيز ابراهيم النفيعي معتقل قرابة 19 شهرا في سجون البحرين لمجرد انه فقد جواز سفره فماذا نفسر هذا الأمر. وعندما يعلم سفيرنا في ألمانيا أن أب مصري يحارب طواحين الهواء لمدة اثني عشر سنة ليحصل على حضانة ابنته امحتجزة في دار أياتام وهو على قيد الحياة، ولا يفعل شيئا، بماذا نفسر الامر. وعندما تقوم الداخلية بانشاء وحدة مرور في مدينة الشيخ زايد للملاكي فقط، وتجبر مالكي سيارات النقل والدراجات النارية للذهاب الى مرور أكتوبر المزدحم بكل أنواع السيارات بماذا نسمي هذا الامر؟ وعندما تقوم الدولة بمد كل العشوائيات بكل المرافق الأساسية رغم أنهم بنوا على أرض زراعية وبلا تخطيط، وتنفق المليارات على البنية التحتية لها، ثم تشكوا من زيادة مخالفات البناء على الأراضي الزراعية بماذا نسمي هذا الامر؟ وعندما تقوم ثورة على حكم الاخوان الذي استغل الدين وتاجر به لخداع الناس للوصول الى الحكم، ثم تأتي حكومة هذه الثورة بالاتفاق مع حزب ديني آخر مؤيد لها وتسمح له بالعمل السياسي بماذا نسمي هذا الامر؟ وعندما يشكو الناس من ظاهرة البطجة، وفرض الاتاوات على سكان المدن الجديدة خاصة من الأعراب، وفي أقسام الشرطة عشرات الالف من المحاضر لم تتحرك ولم تحدد البلطجي، ثم تقوم نفس الحكومة بالتعاقد مع هذا البلطجي ليحرس لها أراضيها وأملاكها بماذا نسمي هذا الامر؟ وعندما تمرر السلطة الى إعلاميها بملفات وقصص فضائحية عن إمارة قطر وعن أميرها وأمه، وتتهمهم بتمويل الإرهاب وقتل جنودنا في سيناء وربوع المحروسة، ثم فجأة نوافق على الصلح لمجرد أنه جاء بدعوة من العاهل السعودي بماذا نسمي هذا الامر؟ تضع الحكومة جماعة الاخوان في قائمة هزلية للإرهاب لا تحمل أي سند قانوني، ويستخدمها الإعلام دائما في وصف الجماعة بالإرهابية، ثم تقوم نفس الحكومة بالتفاوض السري معها قبل رابعة وبعد رابعة وتجلس مع ممثلهم المطلق السراح، ثم تلقي القبض عليه فجأة لأنه دعى لتظاهرة، بماذا نسمي هذا الامر؟ الاستعباط يسكن تحت جلودنا، ونتنفسه مع كل دقة من دقات القلب، ويشكل العماد الاساسي للخلايا العصبية في عقولنا، ثم نستعجب لماذا وصل بنا الحال الى هذا المستوى من الانحطاط؟ اذا اردنا اصلاح حالنا.. يجب ان نكتفي بهذ القدر الضخم من الاستعباط في حياتنا، ونبدأ في مواجهة الحقائق، ونعترف بأخطائنا، كخطوة أولى للتصويب.. حتى لا نكون شعب أدمن الاستعباط.