من فضلكم، وارفضوا المعونة الأمريكية، واكسبوا استقلال البلد، وحرية قراره الوطنى . وليست هذه مغامرة ولا مقامرة، ولا مخاطرة من أى نوع، فنحن لا ندعو إلى حرب مع أمريكا، ولا لإشهار سيف العداوة، ولا لقطع العلاقات مع قوة عظمى، بل نريد تصحيحا للخلل الفادح، وتعاملا نديا محترما، لا تكون فيه يدنا هى السفلى، ولا تلهث أنفاسنا فى متابعة مناقشات الكونجرس، ولا فى تأويل تصريحات المسئولين الأمريكيين، ولا فى قراءة افتتاحيات «النيويورك تايمز»، ولا فى التخوف من قطع المعونة العسكرية كلها أو بعضها، ولا من احتجاز طائرات «الأباتشى» ، فمصر التى نعرفها هى هبة النيل، ومصر هبة المصريين، وليست هبة البيت الأبيض. والمعونة الأمريكية ليست معونة من أصله، بل عبء ثقيل، ومذلة خالصة، وقيد على التنمية وتسليح الجيش، وضحك على الذقون، وفلوس على ورق دشت، لا يدخل جيب مصر منها سنت واحد، بل مجرد اعتماد مالى مرصود فى بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى، يذهب ثلثا قيمته إلى جيب شركات السلاح الأمريكية، ينعشون به مصانعها، ويوظفون عمالها، فيما يذهب الثلث الباقى إلى رواتب خبراء أمريكيين من الدرجة العاشرة، وإلى جهاز معونة متضخم مقيم فى القاهرة، أقرب إلى سلطة انتداب وإشراف وتوجيه، تستبقى فتات الملايين لتوزيعها على عملاء المعونة المصريين . ومبالغ المعونة الكلية تافهة، وقيمتها الإجمالية أقل بكثير من نصف بالمئة قياسا لحجم الناتج القومى المصرى، هذا بافتراض أنها تدخل الخزانة المصرية أصلا، أو تضيف إلى إنتاجية الاقتصاد، وهو ما حدث ويحدث عكسه بالضبط، فقد بدأ انتظام المعونة إياها منذ عام 1979، وبالتواقت مع عقد ما تسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وزادت قيمة المعونة تدريجيا، إلى أن وصلت إلى 2.3 مليار دولار سنويا، ثم بدأ الخفض التدريجى منذ سنوات، وتراجع الجانب الاقتصادى من المعونة سنويا إلى 250 مليون دولار لاغير، وظلت المعونة العسكرية على حالها، وفى حدود 1.3 مليار دولار سنويا، جرى تجميد معظمها بعد ثورة الشعب المصرى، ودون أن يتأثر الجيش المصرى، فقد زادت قوته بإطراد مع تراجع المعونة، وقفز ترتيبه العالمى إلى المرتبة الثالثة عشرة، وهو ما يبرز حقيقة سلبية المعونة لا إيجابيتها، فهى تلزم بشراء السلاح الأمريكى وحده، وبقيمة تفوق أسعار السوق، وبلا قطع غيار مصاحبة، ولا حقوق صيانة مصرية، وبنوعية سلاح متخلف عما تعطيه واشنطن لإسرائيل بمئة خطوة، وهدفها الحقيقى هو إضعاف الجيش المصرى، وتقييد التطور الذاتى لصناعاتنا الحربية، فوق تجريف صناعاتنا المدنية، وهدم قلاعنا الإنتاجية الكبرى بالخصخصة إياها، والتى لعبت فيها المعونة دور أداة الضغط المباشر، وفى سياق منظومة تدمير استقلالية قرارنا الاقتصادى، والتى كان لواشنطن فيها دور المايسترو، عبر إملاءات المندوب السامى فى السفارة الأمريكية، وعبر رهن اختياراتنا لوصفات صندق النقد والبنك الدوليين، وعبر «غرفة التجارة الأمريكية» التى تحولت إلى حكومة موازية، وعبر دور المعونة الأمريكية فى تصنيع طبقة مليارديرات تابعة، تحالفت مع الفساد المستشرى فى دولة مهترئة، واستفادت بتحويل الخصخصة إلى «مصمصة»، وبوضع سلطة القرار السياسى فى جيبها، وكما كان عليه الأمر زمن مبارك وسطوة نجله، ودون أن تتغير المعادلة المهلكة فى زمن حكم الإخوان. وقد يقال لك إننا لا نستطيع رفض المعونة السامة، وأن إلغاء المعونة قد يعنى إلغاء ما تسمى معاهدة السلام، وهذا كذب لو تعلمون عظيم، فليس فى نصوص المعاهدة ما يلزم مصر بتلقى المعونة، ولا بقبول هوانها، وتدمير اقتصادنا وإضعاف سلاحنا، صحيح أن أمريكا طرف ضامن للمعاهدة المصرية الإسرائيلية، وهو وضع شائه فى العلاقات الدولية، حرمنا من حرية التصرف، ومن إعطاء الأولوية لمصالح مصر الوطنية، وجعل سياستنا رهينة فى يد واشنطن، خوفا وطمعا، أو بإدمان الخضوع، وهو ما جعل نداء الاستقلال الوطنى ساطعا مدويا فى 30 يونيو الموجة الأعظم لثورة 25 يناير، فقد أدرك المصريون أن حريتهم من حرية بلادهم الأسيرة، وأن حرية مصر شرط جوهرى لكسب حرية المصريين، وهو ما أدركته القيادة الجديدة بعد خلع مبارك وخلع الإخوان، وتصرفت بوحيه، وبخطة وطنية ذكية، تفكك القيود تدريجيا، ودونما صخب ولا ضجيج، وبفرض وقائع ميدان جديدة، ألغت عمليا مناطق نزع السلاح المنصوص عليها فى ملاحق المعاهدة المصرية الإسرائيلية، ودفعت بوجود الجيش المصرى إلى ملامسة خط حدودنا التاريخية مع فلسطينالمحتلة، وخلقت حقائق ظاهرة تستعصى على الإنكار، وتدفع إلى تعديل جوهرى فى المعاهدة، كما قال الرئيس السيسى فى خطاب تنصيبه، وهو تطور يسترد سيادتنا الوطنية العسكرية على تراب سيناء كاملا، وبصورة غير مسبوقة منذ ما قبل هزيمة 1967، أضف إلى ذلك ما جرى من تقلص درامى للعلاقات المصرية الإسرائيلية، وبالذات بعد إحراق شباب الثورة لمقر سفارة العدو الإسرائيلى على نيل الجيزة، وحجز السفير الإسرائيلى من يومها فى سرداب سرى بحى المعادى، وكلها تطورات تقلق الإسرائيليين والأمريكيين، وزاد قلق واشنطن مع سلوك الرئيس السيسى، والذى يبدو لا مباليا بتهديدات خفض وتجميد المعونة، فقد أعد للأمر عدته، بتوفير نطاق دعم عربى خليجى بالذات، وبرد الاعتبار لعلاقات السلاح والاقتصاد والصناعة مع روسيا، وبالحركة النشيطة لبناء القوة المصرية فى علم متعدد الأقطاب العظمى، وباستنفار طاقة المصريين السحرية على نحو ما جرى فى التمويل الشعبى الأسطورى لشهادات استثمار قناة السويس، وهو ما يضاعف من مقدرة مصر على اتخاذ قرارها الحاسم، واستعادة استقلالها الوطنى كاملا برفض مذلة المعونة . نعم، افعلوها الآن، وفضوها سيرة، واطلبوا المعونة من الله، ومن الشعب المصرى ملك المعجزات .