• أنت أمام التقاء فريد فى شخصية واحدة خلاصتها «الموهبة والجهد والظرف التاريخى» • هيكل بكلمات محمود درويش «حظ المهارة إذ تجتهد» • شارك كوكبة من نجوم مصر اللامعة تجربة الاعتقال القاسية • لم يكن من هواة التواضع الزائف ولا الكبرياء المفتعل • أنا ابن الجيل الذى انتمى إلى حلم هذا الوطن الذى عبر عنه عبدالناصر وكان هيكل أحد صناعه • فى سجن مزرعة طرة كان الأستاذ يحظى بوردة يانعة من رفيقة دربه ونفوز نحن بسلة غذائه العامرة • اختلفنا حول ما جرى فى 15 مايو 1971 لكن الخلاف لم يمنعنا أبدا من احترامه حتى آخر لحظة • قال لى ذات مرة «أنت عاوزنى يا حمدين أنزل أروح مؤتمرات وألف فى البلاد؟ طيب لما أدخل مكان ويقدموا ليه كوب شاى أو حاجة ساقعة وأنا عامل نظام غذائى يخلينى ما أشربش حاجة أعملك أزمة» برحيل الأستاذ افتقدت الصحافة أكثر المعبرين عنها، وافتقدت الثقافة العربية واحدا من أكثر مجدديها، وافتقدت الوطنية المصرية واحدا من أهم دعاتها والمؤمنين بها، أما من يعرفونه فقد افتقدوا «الضهر» والسند الحقيقى، هكذا يصف المرشح الرئاسى السابق ومؤسس التيار الشعبى حمدين صباحى، خسارته من غياب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. ويقول صباحى فى حوار ل«الشروق» إن هيكل لم يصنع هذه المكانة الاستثنائية التى حظى بها فى الثقافة والصحافة والسياسة، إلا لأنه كان ذا تكوين إنسانى متفرد، صاحبه يدرك قدره، فلم يكن من «هواة التواضع الزائف، ولا الكبرياء المفتعل». باختصار أنت أمام «رجل عرف المشقة، والتقاء الجهد والموهبة والظرف التاريخى»، فجسد الأستاذ بحق قول الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش فى «لاعب النرد».. «حظ المهارة إذ يجتهد». فى بداية الحوار يقول صباحى إنه عرف هيكل قارئا، متذكرا المشهد أمام مسجد سيدى يعقوب فى بلطيم بكفر الشيخ حيث «كنا نخرج من صلاة الجمعة وهو التوقيت الذى تصل فيه الصحف فنشترى أهرام هيكل، وأعتقد أن هيكل من أساطين اللغة، فقد صنع لغة خاصة به تستطيع أن تميزها من بين مئات الكتابات الأخرى، لغة هيكلية، فيها من جمال اللغة، ومن بلاغتها، ومن قدرتها على التعبير، والتكثيف والاختزال، والاختصار غير المخل، ما يجعل من الكثير الذى كتبه هيكل أكثر تفوقا على ما قاله هيكل المتحدث الشفاهى فى مرحلة الظهور التليفزيونى. لغة هيكل المكتوبة كانت آثرة بالنسبة لى، وأنا ابن الجيل الذى انتمى إلى حلم هذا الوطن الذى عبر عنه جمال عبدالناصر، وعرفت هيكل من هذه المسافة، مسافة المرتبط بحلم العدل الاجتماعى والتحرر، والقومية العربية، والقيم التى تشربتها أنا وجيلى، والتى كان عبدالناصر يناضل من أجل أن تكون واقعا، وهيكل كان واحدا من صناع هذا الحلم، صديق لعبدالناصر، الشريك، الشاهد والموثق، وهو بالتأكيد من الذين أسهموا فى صياغة أدبيات ثورة يوليو. * متى اتيحت لك فرصة الالتقاء بالكاتب الكبير؟ انتقلت إلى الجامعة طالبا فى كلية الإعلام، وارتبطت بمهنة، أيضا وجدت أن محمد حسنين هيكل هو رمزها الأكبر، وواحد من أساطينها الكبار، ومن صناع هذه المهنة، ومن نابغيها ومجتهديها، واساتذتها العظام، وأعتقد أنه عندما اتيحت لى فرصة التعرف عليه شخصيا كان هذا تاليا لتعرفى عليه كشريك فى صياغة حلم هذا الوطن، بقيادة جمال عبدالناصر، وكأستاذ فى المهنة التى انتسبت إليها. عندما أتيحت لى أيضا فرصة التعرف عليه إنسانيا، وجدت نموذجا يستحق التأمل أيضا، لم يصنع هيكل هذه المكانة الاستثنائية التى حظى بها فى الثقافة والصحافة والسياسة، إلا لأنه كان ذا تكوين إنسانى متفرد، استطاع أن يقرن موهبة حباه الله بها، بالغة التألق، بجهد إنسانى بالغ المثابرة، والدأب، والتنظيم، والاجتهاد، فهذا رجل عرف المشقة، والتقاء الجهد والموهبة، والظرف التاريخى الذى كانت تمر به مصر فى عهد عبدالناصر، هو الذى أسس لهذه الظاهرة التى يعرفها الناس باسم محمد حسنين هيكل. عندما التقينا هيكل كنا جزءا من حركة طلابية تنتسب لجمال عبدالناصر، وهى الحركة التى طرحت الناصرية باعتبارها مشروعا ثوريا للتغيير مرتبطا بالناس وبالشعب، منفصلا عن السلطة، قبل ذلك فى السبعينيات من القرن الماضى، كانت الناصرية فى جامعات مصر تعبيرا عن اختيار عبرت عنه سلطة فى عهد عبدالناصر ثم استمرت بعده، مرتبطة بالسلطة، اسهمنا فى أن نطرح الناصرية باعتبارها حركة شارع وليس اختيارات أو املاءات سلطة. عندما التقينا الاستاذ هيكل كان لنا موقف نقدى من سياسات الرئيس أنور السادات، وكنا نصنف 15 مايو 1971 التى انفرد فيها السادات بالسلطة على حساب رجال عبدالناصر باعتبارها أحد مؤشرات الردة على عبدالناصر، وكان بيننا وبين الاستاذ هيكل خلاف منذ اللقاء الأول معه حول توصيف 15 مايو، لأنه كان شريكا فيها، وكان يرى فى هذا الوقت أنه لا يوجد معنى لدفاعنا، أو الانتساب لرجال دولة عبدالناصر، لأنه كان يعتقد أنهم لم يكونوا تعبيرا حقيقيا عن حلمه، ونصحنا منذ اللحظة الأولى بأن يكون لنا اختيارنا المستقل عنهم. *هل أخذتم بنصيحة الأستاذ فى هذه النقطة؟ نحن لم يكن لنا علاقة برجال 15 مايو، فقد تشكلنا فى الجامعة بمعزل عنهم، فلم يكونوا هم فى السلطة، ولم نكن على ارتباط بهم، نحن دافعنا عنهم، ثم شاركناهم بعد ذلك تجارب تنظيمية فى الحزب الناصرى، وكان يحلو للأستاذ هيكل كلما التقينا، بعد هذا بسنوات، وبعد أن شكونا من عدم قدرتنا على التفاعل ديمقراطيا مع رجال دولة عبدالناصر، أن يذكرنا بقدر من الابتسامة ذات المغزى التى تقول: «حذرتكم منهم من أول لحظة التقيت بكم». * فى ضوء لقاءاتك المتعددة معه، ماذا تقول عن هيكل الإنسان؟ أعتقد أننى كنت محظوظا بالتعرف على هيكل ضمن آخرين اكتشفوا فيه قدرا كبيرا من النبل، والقدرة على أن يكون سندا للناس، واكتشفت هذه المساحات الرائقة فى تكوينه الشخصى، هذا الرجل كان محبا حقيقيا للحياة، وهذا ساعده على أن يصنع ظاهرته، فقد كنت فى جلساته تستطيع أن تستمع إلى عيون الشعر العربى فى كل عصوره، بدءا من المعلقات بفهم عميق، وحفظ متين، واستحضار للمعنى هائل. هذا التكوين فى جذر ثقافة هيكل مرتبط بالعربية كلغة ممثلة فى الشعر، تستطيع أن تربطه بما قاله ابنه أحمد من أن «الأستاذ» وهو يوشك أن يلقى ربه كان قد جهز بالتفصيل الدقيق كل الخطوات، تأملت وتوقفت كثيرا عند هذه التفاصيل فيما اختاره هيكل لمشهد الانتقال من الحياة الدنيا إلى العالم الآخرة، القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، ثم هذه الوردة الوحيدة المتألقة اليانعة فى لحظة الموت، هنا سأقوم بقطع بلغة السينما، وأعود لسجن ملحق مزرعة طره إبان حملة سبتمبر 1981، فأنت أمام سجن ذى طبيعة خاصة من دورين فقط، عدد محدود من الزنازين، يربط بين الدور الأرضى والعلوى سلم حديد وممشى حديدى مسور بالحديد أيضا أمام الزنازين، فى الدور الثانى الزنزانة التى كان فيها الأستاذ هيكل فترة حبسه، وكنت أنا فى الزنزانة المقابلة، أبواب الزنازين عبارة عن قضبان مفتوحة، فى شفافية، وعندما اتيحت لى أن أدخل هذا السجن بعدها بسنوات متهما فى قضية أخرى باعتبارى «إرهابى»، وجدت السجن نفسه تحول إلى كتل صماء من الحديد الذى يعزلك عن كل حياة، حتى يضعف قدرتك على سماع أى صوت. * اخترت العودة ليوميات السجن أثناء حملة اعتقالات سبتمبر الشهيرة، فكيف كان وقعها على الأستاذ هيكل؟ هيكل الذى اعتاد على أن يكون له مواقيت، متى ينام، متى يستيقظ، متى يقرأ، متى يستقبل الناس، متى يتريض، كيف يستمع، ومتى يشاهد، من يتلقى، متى يسافر، هذه الدرجة المذهلة من كفاءة استثمار الوقت، وتنظيمه، ثم القدرة المذهلة على الاحتفاظ به موثقا فى كل ورقة أو مستند، أو قصاصة يعثر عليها، وفى تسجيله شبه اليومى الذى أصبح جزءا مما يمكن تسميته روتين حياته، لأن كل ما يشهده كان يسجله، أحدث السجن اختلالا فى نظامه الذى اعتاده بلا شك. وأتذكر أن الأستاذ هيكل بعد أن بدأوا عقب فترة طويلة، السماح بأن نستقبل أطعمة من الخارج، كان الأستاذ يهبط سلم السجن حيث يلتقيه اثنان من العساكر يحملان سلة واسعة تحتوى على الطعام الذى ارسلته السيدة هدايت رفيقة هذا العمر الطويل الجميل، وعليها غطاء أنيق، فوقه وردة، فيلتقط الأستاذ الوردة، ويشتمها ثم يصعد الدرج عائدا لزنزانته، وغالبا ما كان يدفع بما فى السلة من طعام إلى المكلف من قبلنا كسجناء لتولى أمور الإعاشة، وكان يؤدى هذا الدور المرحوم الدكتور كمال الإبراشى، والصديق العزيز كمال أبوعيطة، فيما يظفر هيكل بهذه الوردة. * ألم يكن متاحا للاستاذ هيكل الحصول على أية أوراق أو أدوات كتابية أثناء وجوده فى السجن؟ لم يكن متاحا له أى شىء من ذلك، وما قصدته بالحديث هو الإشارة إلى مدى ترتيبه لحياته، فهيكل الإنسان الذى يملك القدرة على تنظيم وقته، والقدرة على بذل الجهد المضاعف، هذه القدرة على عدم الاعتماد فقط على موهبة حباه الله بها، وأنا اتذكر كثيرا الكلمة الشهيرة لأديسون المخترع الشهير الذى يقول إن «العبقرية 1% موهبة و99% عرق وجهد». هيكل موهبة من طراز رفيع، لكنه لم يستند أبدا على أن موهبته تكفيه، لم يتكاسل متكئا على موهبة يثق الجميع فى تميزها، فقد كافح بجد فى أن يبنى نفسه، وفى بناء المؤسسة الهائلة «الأهرام»، التى لازالت حتى الآن «أهرام هيكل»، وهى نموذج رائد لمؤسسة صحفية بأرقى معنى يمكن أن نفخر به فى تاريخ الصحافة العربية، باعتبارها واحدة من المؤسسات المنافسة فى العالم، كما بنى هيكل نفسه بمعيار مؤسسى، فقد كان رجل مؤسسة فى طريقة تعامله مع نفسه كوقت وجهد. أنا اعتبر هيكل تعبيرا عن التقاء فريد لثلاثة عناصر هى «الموهبة والجهد والظرف التاريخى» فى تحول كبير كان جمال عبدالناصر علمه وهيكل معه، فصنعت هذه الظاهرة الاستثنائية الفريدة «هيكل»، فحتى أيام مضت كان الرجل الفرد الأهم من الباقين على قيد الحياة، الذين يمثلون قيمة الثقافة العربية، أو القوى الناعمة للوطن العربى ولمصر، أنا احيانا أتساءل مع صديقى أمين اسكندر، إذا مات هيكل وفيروز، من سيبقى كإنسان يمثل قيمة هذه الثقافة، وهذه القوى الناعمة للوطن العربى؟. * هناك جدل يثور من وقت لآخر وخاصة فى أوساط الناصريين بشأن علاقة هيكل بما جرى فى 15 مايو 1971، كيف تقيم هذا الأمر؟ أشرت إليك أننى جزء من جيل اختلفنا مع الأستاذ هيكل فى أول لقاء معه بشأن ما حدث فى 15 مايو، وأنه عاد بعد سنوات ليذكرنا بصحة موقفه، و15 مايو نقطة فى التاريخ، والاعتداد بهيكل لا ينفى الاتفاق أو الاختلاف معه، فهو قيمة إنسانية ومهنية، وسياسية وثقافية كبرى فى هذا العصر، واجب هذه الأمة العربية أن تعتد بمثل هؤلاء الرجال والخلاف معهم طبيعى أيضا، نحن اختلفنا فى توصيف 15 مايو، وبما فى ذلك الاستاذ هيكل، وكان له رأيه المعروف والمذاع، وكان لنا رأى مخالف، لكن هذا الخلاف لم يمنعنا أبدا من احترام هيكل حتى آخر لحظة، ولم يمنعنا من أن نتفق ونختلف مع رجال 15 مايو الذين دافعنا عنهم عندما اتيحت فرصة بعد سنوات عندما عرفناهم معرفة شخصية. * إذا عدنا إلى يوميات سجن طرة، ما هو تأثير التجربة عليه؟ هيكل كصحفى عرف كل الكبار فى السياسة من مصر والعالم، وهو لم يطرح نفسه مناضلا سياسيا على طريقتنا، وأتذكر مرة عندما كنا نجلس نتحاور كنت أقول له ننزل الشارع، وقد كان يبدى اعجابا بحماسنا، واحتراما لتقديراتنا، لكن مع وضوح فاصل قاطع بأنه ليس شريكا فى هذا النوع من الأداء، وذات مرة قال لى: «أنت عاوزنى يا حمدين انزل أروح مؤتمرات، وألف فى البلاد؟ طيب لما ادخل مكان ويقدموا ليه كوب شاى أو حاجة ساقعة، وأنا عامل نظام غذائى يخلينى ما اشربش حاجة، أعملك أزمة، وأخليك تخاصم الناس اللى أنت رايح لهم؟». هيكل كان يدرك قدره، وكان فيه بساطة جميلة ومحببة رغم قيمته، لم يكن من هواة التواضع الزائف، ولا الكبرياء المفتعل، فقد كان يعرف قدره، وأنا كنت أقول إن بعض الناس سنغفر لهم إذا «اغتروا» رغم عدم حبى للغرور، لكن البعض «يحق له»، وانجازه يسمح له بذلك. خلال فترة السجن فى حملة سبتمبر 1981، رأيت أناسا وهم يرتدون البيجامات، فلم يكونوا فى مكاتب رسمية لحظة إلقاء القبض عليهم، وأشهد أن عددا من هؤلاء لم يتنازلوا عن الاعتداد بأنفسهم، والسجن هو لحظة استدعاء للاعتداد بالذات، هيكل ورغم أن هذه التجربة تعتبر قاسية بالنسبة له، فهى ليست جزءا من تكوينه، كان وسط نحو 50 معتقلا تم فرزهم من 1536، ووضعهم فى السجن الخاص، وكان من حظى أننى كنت الأصغر سنا بينهم. * تتحدث عن فترة الاعتقال فى حملة سبتمبر بسجن ملحق مزرعة طرة بمودة شديدة، كيف لنا أن نفهم هذه المفارقة؟ لقد رأيت نماذج مبهرة بالنسبة لى على المستوى الإنسانى، هيكل، وفؤاد سراج الدين، وهو خصمى على المستوى السياسى، لكنى أكبرت جدا ما فى هذا الرجل من كبرياء شخصى، واحترام للذات، رأيت العظيم فتحى رضوان، وكنت أحب عندما يسمح لنا بالتريض لنصف ساعة، المشى إلى جواره، والاستماع إليه، ورأيت الدكتور عصمت سيف الدولة، وكان حظى أننى كنت أعرفه قبل السجن، والدكتور على نويجى، أنا أذكر هذه النماذج لأن كل اسم من هؤلاء، مصر جديرة بأن تعتد إلى أبعد درجة به، فهؤلاء رجال بكل معنى الكلمة. على الجانب الآخر، بمناسة ذكر رجال 15 مايو، كان موجودا فى نفس السجن الأستاذ محمد فايق، وقد أمضى قبل ذلك سنوات محبوسا عقب 15 مايو 1971، وتعفف وتكبر عن أن يكتب التماسا للسادات كى يفرج عنه، كنا شبابا وكنا نرى عندما تفتح الزنازين طلة محمد فايق، بملبس أنيق، ووجه مضىء مبتسم يحمل كل الشعور بأنه أكبر من تحدى هذا السجن، وأن ترى فايق فى السجن هذا يعطيك طاقة أمل، وأكثر ما كان يلفت نظرى هذا الحذاء اللامع المصقول الذى ينتعله محمد فايق على هذا النحو يوميا، كما لو أنه فى مقابلة ملكية، أو فى استقبال أحد. * من كان من رفقاء الاستاذ هيكل فى السجن فى ذلك الوقت أيضا؟ كان هناك حلمى مراد، وفؤاد مرسى، وإسماعيل صبرى عبدالله، وأذكر اليوم الذى وقفنا فيه من خلف قضبان زنازيننا المفتوحة، نرى نقيب المحامين (الراحل) عبدالعزيز الشوربجى، ورغم سنه الكبيرة وصحته المعتلة، وقد وضعوه فى الدور العلوى من السجن، وهو يرتقى السلم الحديدى بمشقة، كبرياء هذا الشيخ العظيم وهو يصعد درج السجن، مصحوبا بسجانيه، جعلنا جميعا نشعر بقوة، ما دفع السجن كله إلى التصفيق الطويل اعتدادا بالرجل، هذا البلد غنى جدا برجاله، وناسنا هم أروع ثروة مصر استطاعت تخليقها، وهؤلاء التعبير عن «مصر ولادة»، وهيكل له مقام عظيم وسط هؤلاء، نتفق معه، نختلف، نراه على صواب أو على خطأ فى مواقفه، لكن يبقى هو هذه القيمة، وهذا التعبير الأعظم لسلطان وهيبة ونفوذ الكلمة فى هذا البلد. هؤلاء الناس لو لم نحسن تقديرهم نكون بمثابة من يفرط فى أكبر مخزون لديه، لأن غنى مصر أساسا فى ناسها، وشعبها، وهؤلاء نماذج اتيح لكثيرين أن يعرفوها، إدراكا لهم ولقوتهم واتساقهم السياسى والأخلاقى، وقدرتهم على أنهم يدافعون عما يعتقدون أنه الصواب، وهذه أضواء حقيقية يجب أن نظل مشعليها. * تحدثت عن الاستاذ هيكل، لكنك لم تذكر موقفا يخصك من جانبه، كما لو أنك تتجنب هذا الأمر؟ فى هذه الحالة التى تشير إليها سيتحول الحديث عنى، لكنى لا أرى من اللياقة أن اتطرق إلى ذلك، واعتقد أن أى إنسان يتحدث الآن عن هيكل تنازعه نفسه، وأنا اعتد بما حصلت عليه من الأستاذ، واعتبره تكريما فوق ما أستحق، وأظن أن من حقى أن أباهى بهذا، لكن ليس حاليا، سيأتى الوقت، فنحن أمام اللحظة التى يجب أن نشيد فيها بهذا الرجل الذى لا يمكن تعويضه. * ما هو أكثر شىء افتقدناه عقب غياب الأستاذ وتعتقد أنه الخسارة الأكبر بعد رحيله؟ افتقدت الصحافة أكثر المعبرين عنها، وافتقدت الثقافة العربية واحدا من أكثر مجدديها، ودعاة التنوير، والفكر، كما افتقدت اللغة العربية واحدا من أبلغ أساطينها، وافتقدت الوطنية المصرية واحدا من أهم دعاتها والمؤمنين بها، افتقدت القومية العربية واحدا من أهم من دافعوا عنها وخاضوا معاركها، افتقدت المقاومة (هذا التعبير) فى مواجهة الكبرى فى العالم وبالذات فى مواجهة العدو الصهيونى، سندا حقيقيا، كان بقلمه وبفكره ومواقفه تعبيرا عنها. أما من يعرفون هيكل فقد افتقدوا «ضهر» بالتعبير العامى، الذى لا يوجد أدق منه، هناك كثر افتقدوا هذا «الضهر» الحقيقى بغياب هيكل، وهذا المعنى سيدركه جدا من أتاح لهم الله فرصة الاقتراب الإنسانى من الأستاذ، وهذا كله لا يوجد فرد يمكن أن يعوضه. واخيرا أقول إن مثلث (اللحظة التاريخية، عندما تنادى على موهبة، قادرة على بذل الجهد) الذى صنع هيكل نادر الحدوث، فهناك موهوبون كثر لكن قد لا يجتهدون مثل اجتهاده، وربما يجتهد موهوبون، لكن السياق التاريخى قد لا يستدعيهم، هيكل وجد كما يقول الشاعر محمود درويش فى «لاعب النرد»: حظ المهارة إذ تجتهد.