أزور أقربائى فى عاصمة عربية فنمضى معا سهرة عائلية كتلك التى كنا نمضيها فى أية زيارة لهم إلى دمشق، حين كانوا يطرقون علينا باب البيت بعد أن يكونوا قد أمضوا ساعات النهار فى السوق، يشترون مواد مما تشتهر بها دمشق، من أقمشة ومفارش وفواكه مجففة وبهارات وأعمال فنية ومنتجات قطنية. يدخلون بيتنا فيرمون الأكياس عند المدخل، ويحكون لنا عن يومهم، وعن الازدحام فى الطرقات وفروق الأسعار الحالية عن زياراتهم السابقة، وعن مشترواتهم وتعب أقدامهم من المشى فى الشوارع المكتظة. يشربون الشاى عندنا ريثما تنتهى أمى من مد سفرة العشاء. «ما عملنا لكم شى زيادة، كله من أكل البيت اليومى». كثيرا ما تقول سيدة الدار جملة بهذا المعنى عند تقديمها وجبة لا تشعر أنها قد بذلت جهدا فى تحضيرها، بمعنى أن الوجبة تكون فعلا شبيهة بوجبة كانت ستقدمها لعائلتها دون أن يكون هناك ضيوف عليهم، أو قد تزيد على الوجبة طبقا أو اثنين يسرع تحضيرهما. وهكذا تمضى الساعات مع أقارب يزوروننا من بيروت أو من عمان، وفى سنوات سابقة حتى من بغداد، فنجلس نتسامر فى البيت فيما تعيد أمى حساباتها فى ذهنها، فتندم كل مرة على أنها لم تطبخ أصنافا إضافية، «حضرتوا وما حضر واجبكم» تقول أمى للضيوف، بمعنى أن مقامهم كان يستدعى أن تمد سفرة أكبر وأغنى وأكثر دسما تليق بمقامهم فى عينيها، «لا ما تقولى هيك، نحن من أهل البيت» يرد الأقارب الضيوف. ••• هذه المرة أجلس أنا فى بيت أقاربى نتذكر تفاصيل الأعراس والمناسبات السعيدة والحزينة التى جمعتنا فى سنوات مضت كأسرة عبر الحدود، نتبادل أخبار من رحل ومن بقى من حولنا. أنظر على يمينى فأرى طبقا صغيرا فيه حلوى المشبك بالفستق. لم أرَ المشبك بل ولم يخطر حتى على بالى منذ أن قدمناه من سنوات فى بيتنا فى إحدى المناسبات السعيدة فى دمشق. المشبك عبارة عن حبات الفستق الحلبى المقشورة الكاملة مصفوفة فى دائرة وملتصقة ببعضها البعض بالسكر الأبيض، تلمع حبيبات السكر فوق الفستق كالكريستال وتقرمش تحت الأسنان حين نقضم طرف الدائرة. أتناول حبة من الطبق دون أن أسأل، أفتح البلاستيك الشفاف الذى يغلفها بعناية شديدة، لا أريد أن أكسر الدائرة، أخرج القرص من الغلاف وأضعه على راحة اليد الأخرى، أنظر إليه فتتلألأ حبيبات السكر فوق حبات الفستق تحت ضوء المصباح بقربى. لا أسمع بقية الحديث، فأنا مشغولة بقطعة المشبك. أفكر فى مكانة الفستق الحلبى فى قلبنا كسوريين، واستعرض استعمالاته المتعددة فى أصناف الأكل والحلوى وخصوصا فى المدن الكبرى فى سوريا. فهو عنصر أساسى فى الحلويات الشامية الشهيرة «الشام بمعناها الجغرافى، أى المشرق عموما». أذكر حكاية كان يحكيها لى والدى، وهو بالمناسبة من حلب، عن أشجار الفستق فى بساتين حلب وريفها، يصف أصوات تفتح ثمرة الفستق فى ليالى الصيف فيقول إنه كان باستطاعة من يمشى فى بساتين الفستق، أن يسمع طقطقة خفيفة ومتواترة كفرقعة الأصابع أو كتلك التى تصدر عن العصفور نقار الخشب وهو ينقر جذع شجرة، كان ذلك هو الصوت الذى تصدره حبات الفستق حين تنفتح قشرتها الصلبة نصف انفتاحة، فيظهر طرف الثمرة الطرية من داخل غلافها القاسى. «عاشورى يا مال حلب» يصرخ بائع الفستق المتجول فى شوارع دمشق، يجر عربة عليها جبل من الفستق الطازج، آلاف حبات الفستق المغلفة بقشرتها الحمراء الرطبة، التى تلتف حول قشرة الفستق القاسية، والتى بدورها تضم الثمرة الخضراء الندية. يدخل البائع يده فى جبل الفستق ويمد لنا كفه مليئة بالفستق، يقدم لنا تلك الحبات الناعمة الملمس، يلح علينا فى أن نتأكد من تفتح غلافها وحلاوة لبها، فى محاولة يعرف سلفا أنها ناجحة، لحثنا على شراء الفستق. ••• اشتهرت منطقة حلب فى سوريا عبر القرون بزراعة الفستق حتى أخذ الفستق صفته من اسمها «فستق حلبى»، فشجرة الفستق معروفة منذ عهد الآشوريين الذين عاشوا فى منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وهم يعتبرون من أقدم الشعوب التى اعتنقت المسيحية منذ القرن الأول الميلادى، ورغم أن جل زراعة الفستق فى سوريا كانت فى مناطق فى ريفى إدلب وحماه، وكانت بدايتها فى «عين التينة» فى منطقة دمشق، إلا أن الفستق ينسب، فى وعى السوريين، إلى مدينة حلب، ويدعى أفضل أنواعه بالفستق الحلبى العاشورى ويفترض أن صفة «عاشورى» قد تطورت من كلمة «آشورى» عبر تاريخ طويل من تغير لهجات وطرق لفظ الكلام فى منطقتنا. فى أواخر الصيف، حين تبدأ نسمات باردة بالتسلل إلى ليالينا، يأبى السوريون أن يتخلوا عن السهر فى الحدائق والبساتين، لكنهم يعلمون أن الخريف بات على الأبواب، تبدأ عربات الفستق بالظهور فى أماكن تجمع الناس فى الشوارع. ينادى البائع ويتغنى بحباته الطرية والملونة، يتحدى المارة فيقشر لهم عدة حبات فستق دون مجهود، ليروا جودة وطراوة ثمراتها. تشاكسه السيدات فى محاولة منهن لتخفيض السعر، يتفق البائع والمشترى على سعر يرضى الطرفين فيضع البائع الكمية المتفق عليها فى كيس من الورق البنى. «فيهم العافية، كل سنة وانتو سالمين» يقول البائع فيما يضع نقوده فى جيبه بعد أن يقبلها، فى إشارة إلى رضاه. كثيرا ما كان أقرباؤنا يوصوننا على الفستق الحلبى فى موسمه، فنشتريه وننتظر أن يزورنا أحدهم لنعطيه حصته، أو نرسله إلى عمان أو بيروت مع أحد المسافرين. أتذكر تلك الأيام وأنا أنظر إلى حبة المشبك فى بيت أقربائى، وأعرف منهم أن تاجرا ومصنعا من دمشق بدأ بمزج الفستق والسكر وصنع المشبك فى عمان، اشترت منه قريبتى. أقتطع لنفسى قطعة صغيرة أضعها فى فمى، أغمض عينى فأسمع طقطقة الفستق على أشجاره فى ليلة حارة قرب حلب. أعيد تغليف قطعة المشبك فأنا لا أريدها أن تنتهى فى جلسة واحدة. ترانى قريبتى فتصر أن تعطينى الحبات الثلاث التى فى الطبق. لا أتردد بل آخذها، أضعها فى جيبى، أتلمسها أكثر من مرة خلال السهرة، أتأكد أنها هنا، معى، أمانة من حلب أو من دمشق، من إدلب أو من حماة، لا يهم، ما يهم هو هذه الحلوى التى عادت إلى الحياة هنا، فأعادتنى إلى حياتى هناك.