دخلت الروضة الشريفة فى الحرم النبوى بالمدينة المنورة فوجدت سباقا محموما بين المصلين على الوقوف فى المسافة بين المنبر وقبر الرسول، ووجدت غالبية الناس يبكون فى المكان خصوصا وهم يمرون امام قبر الرسول. وكان اللافت للنظر ان نسبة المصريين بين هؤلاء كبيرة. ودخلت الحرم المكى يوم الثلاثاء الماضى لأداء العمرة والسعى بين الصفا والمروة ووجدت زحاما شديدا على تقبيل الحجر الأسود، والتعلق بالجزء الفضى الصغير الواقع بين الحجر وباب الملتزم، ونحيبا وبكاء شديدين من المعتمرين والمصلين، وللمرة الثانية وجدت مصريين كثيرين هناك. وخلال الوقوف على عرفات يوم الاربعاء الماضى شاهدت العديد من المصريين يدخلون فى نوبات شديدة من البكاء وهم يرفعون ايديهم بالدعاء فى هدا المكان المهيب. لست واعظا وكنت احد الذين حرصوا على دخول الروضة الشريفة ولمس الحجر الأسود والإخلاص فى الدعاء، واعلم ان غالبية المصريين من مريدى الحرم النبوى بالمدينة والحرم المكى وهم يحبون رسول الله حبا جما، وربما هم اكثر الشعوب الإسلامية حرصا على الحج والعمرة، بل وهم ربما ايضا الأكثر انضماما إلى الطرق الصوفية بكافة اشكالها، ناهيك عن انهم كان لهم الباع الأطول فى تأسيس حركات الإسلام السياسى بكل تفرعاتها من الأكثر اعتدالا إلى الأشد تطرفا. السؤال القديم المتجدد الذى شغلنى وانا ارى هذا التأثر الشديد للمصريين خلال موسم الحج الأخير هو: اذا كنا بهذا الورع فى العبادات فلماذا لا ينعكس ذلك على العمل الدنيوى؟!. الإسلام وكل الديانات السماوية والوضعية تحث على العمل والإنتاج والاستقامة والنزاهة والمساواة وكل القيم النبيلة والمستنيرة، فلماذا لا يترجم غالبية المصريين حبهم الظاهرى للدين إلى قيم ملموسة على الأرض؟!. المسلم الذى قد يبيع كل ما يملك أو ربما يستدين لأداء فريضة الحج، لماذا لا يحرص على أن يؤدى عمله بتفانٍ واخلاص، وكيف يذهب هذا الشخص للحج ولا يعود كيوم ولدته امه ولا يحرص على اداء عمله طبقا لما ينص عليه صحيح دينه؟!. كيف تكون عند بعضنا هذه الازدواجية الشنيعة: حب الله ورسوله جدا، وعدم العمل فى نفس الوقت بما يقوله الله ورسوله، حب الله ورسوله مهم جدا، لكنه يحتاج إلى ترجمة عملية فى السلوك والتصرفات، وليس مجرد كلام فقط؟!. هل صحيح اننا نضحك على انفسنا ونخدعها ونمارس طقوسا دينية فقط من دون الالتزام بجوهر ما يقوله الدين؟!. واننا نغالى فى هذه الطقوس لكى نغطى على هذا التقصير الفادح؟!. اذا كان ما سبق صحيحا فمَنْ المسئول عن ذلك؟. لا يمكن ان نتهم المواطنين العاديين، والمؤكد ان المناخ العام وطريقة التدين واشياء كثيرة هى التى ادت إلى هذا التناقض الرهيب. احد الأسباب الرئيسية هى جماعات الإسلام السياسى التى حولت الدين إلى تجارة كى تقفز عبرها إلى السلطة، وساهمت فى فرض وتكريس نوع من التدين الشكلى المتناقض كليا مع جوهر الدين التقدمى والإنسانى والعادل. الحكومات المتعاقبة كان لها دور كبير ايضا فى هذا الأمر خصوصا فى عهد انور السادات الذى اعتبر نفسه كبير العائلة، وكان يحرص على الإمساك بالمسبحة وبقية الطقوس السهيرك وقتها!. لكن من الظلم ان نحمل المسئولية للسادات فقط، لأن التجارة بالدين بدأت منذ قرون وربما كان معاوية ابن ابى سفيان احد رواد هذا الأمر فى خلافه مع على ابن ابى طالب كرم الله وجهه. الآن كيف نقنع انفسنا بأن صحيح الدين ليس طقوسه مع كل اهميتها بل السلوك والأعمال على الأرض؟!!. وكيف نقتنع بأننا عندما نتشدد فى طقوس الدين ونهمل جوهره فإننا نخدع انفسنا فقط؟!!. والسؤال الأكبر خاص بالمسلمين عموما وليس المصريين فقط وهو: اذا كنا نعتقد اننا الأكثر تدينا فكيف وصلنا إلى هذا الدرك وكيف اسأنا إلى ديننا الحنيف بهذه الصورة البشعة؟!.