يقولون: «احذروا المرأة التى تتحدث عن الشرف كثيرا»، وبنفس القياس ينبغى أن نحذر من الذين يرفعون صوتهم عاليا بحب الوطن ومحاربة الفساد. قبل أيام قليلة، كنت ضيفا على قناة «إم بى سى مصر» بصحبة الصديق محمد البرغوثى مدير تحرير جريدة الوطن، الذى لفت نظرى إلى بعض أنواع الفاسدين الذين يتغنون بحب الوطن. هناك فاسدون صغار، مثل بعض أصحاب الأكشاك المخالفة على الطرق السريعة، أحدهم يكتفى بوضع صورة الرئيس عبدالفتاح السيسى فوق الكشك، باعتبارها من وجهة نظره جواز مرور من مخالفة القانون. هذه الفئة أقرب إلى فئة «البساريا» الصغيرة التى تسعى إلى التحايل على الرزق بطرق كثيرة منها صورة الرئيس أو الاستماع إلى أغنيتى «تسلم الأيادى وبشرة خير» بصوت مرتفع. خطورة هذه الفئة ذات الفساد الصغير، هى ان المواطنين العاديين يدمنون التعامل مع الفساد باعتباره شيئا عاديا أو وجهة نظر، وليس مخالفة قانونية وانحطاط أخلاقى. الرئاسة كانت قد حذرت قبل أسابيع من عمليات متاجرة كثيرة تتم باسم الرئيس السيسى. وإذا كان صاحب الكشك يضع صورة الرئيس، فإن كبار الفاسدين «الحيتان» يهتفون ليل نهار ب«تحيا مصر»، وتراهم يتصدرون كل الموائد والاحتفالات واللقاءات والمهرجانات والمؤتمرات والسفريات. لكن فى نهاية المطاف، فإن معظمهم لا يدفع مليما واحدا، بل ويسعى للحصول على أى جزء مما يتصور أنه كعكة. بعض هؤلاء لم يدفع مليما واحدا لصندوق تحيا مصر، بل وسخر منه، وطلب من آخرين ألا يدفعوا، لكنه يهتف مع الهتيفة ويغنى مع المغنين. فى المنتصف ما بين البساريا الصغيرة، والحيتان أو القروش المتوحشة هناك كثيرون خصوصا فى مجال الإعلام يمارسون نفس العادة المرذولة، وهى التظاهر بمحاربة الفساد رغم أنهم صاروا من الفاسدين . من بين هذه الفئة الوسيطة بعض الإعلاميين الذين ترى عروقهم نافرة وهم يهتفون «تحيا مصر»، ويعطونك خطبا عصماء عن الوطن والوطنية، وخطورة تنظيم الإخوان والمتطرفين، لكنهم عمليا تعاونوا مع الإخوان فى السابق، ويتعاونون الآن مع رجال أعمال فاسدين. الشىء الجديد أن غالبية المواطنين، إضافة إلى معظم اجهزة الدولة، يعرفون معظم هذه «الفئة المنحطة»، ولديهم تقدير أنه ان آجلا أو عاجلا ينبغى كنس هذه النوعية، إذا كانت هناك رغبة حقيقية فى إقامة بلد جديد على أسس حضارية وإنسانية. المأساة أن خليطا من هذه النماذج الصغيرة والمتوسطة والعليا، هم الذين يتصدرون أحيانا مشهد ومنصة مواجهة الفساد والمفسدين، والسؤال: هل يمكن لفاسد أو متهم أو مشبوه بالفساد، أن يقود الحملة للقضاء على هذا الفساد؟!. ُتحسن الدولة صنعا إذا أبعدت هؤلاء عن قيادة الحملة ضد الفساد، لانها إذا لم تفعل سوف تخسر المعركة قبل ان تبدأ. تخيلوا مثلا أن رجل أعمال كبيرا جدا ومعروف بأنه «فاسد قرارى»، أو مسئولا تم ضبطه أو اتهامه فى قضايا فساد، أو إعلاميا تربح من قضايا فساد كثيرة. هل يمكن ان تشارك أى من هذه النماذج فى مواجهة الفساد والمفسدين؟!. إذا كانت الدولة جادة فى محاربة الفساد وأظنها كذلك فعليها أن تختار وجوها محترمة ونزيهة وشريفة، وفوق الشبهات تماما، كى تتصدر المعركة ضد الفساد. قد لا نستطيع ان نمنع نصابا أو أفاقا صغيرا من رفع صورة الرئيس أو الهتاف بشعار «تحيا مصر»، لكن المؤكد أن الدولة تستطيع أن تمنع الحيتان الضخمة من تصدر المشهد حتى لا نخسر الجلد والسقط.