مثل التعليم والصحة، فإنه من دون اصلاح الجهاز الادارى المترهل فلا امل يرجى من أى محاولات للاصلاح والتقدم مهما كانت النوايا طيبة. نحن الان جميعا مشغولون بالجدل المثار بشأن قانون الخدمة المدنية، الحكومة تقول انه خطوة ثورية للاصلاح والتطوير، وبعض العاملين يقولون انه سيضر كثيرا باوضاعهم ومرتباتهم وحوافزهم. لن ندخل فى هذا الجدل اليوم لاننى تطرقت اليه بالفعل قبل ايام فى نفس هذا المكان. اليوم نركز على نقطة أعتقد انها جوهرية وتتعلق بفكرة الثواب والعقاب، والمساءلة والمحاسبة. من دون وجود ذلك، فلن يكون هناك التزام أو انتاج. «الحال المايل» وصل إلى درجة لا يمكن ان يتصورها عقل فى بعض المؤسسات الحكومية. قبل ايام كنت فى احدى هذه المؤسسات الحكومية واقسم لى احد مديرى الادارات بها انه لا يستطيع ان يلزم بعض السائقين بالعمل وانه يضطر إلى ملاطفتهم ومحايلتهم والطبطبة عليهم حتى يؤدوا جزءا من العمل، وعندما سألته عن سبب هذا الوضع المقلوب اجاب بان الانفلات وصل إلى حد لا يمكن تصوره!!!. هذه المؤسسة ومثيلاتها تحقق خسائر سنوية متزايدة، يتحملها دافعوا الضرائب، والغريب ان موظفيها يتظاهرون مرارا وتكرارا للمطالبة بالحصول على الحوافز والارباح!!!. بل والعجيب انهم حاولوا اكثر من مرة الاعتداء على كبار مسئوليهم لانهم طالبوهم بوقف الخسارة اولا قبل التفكير فى صرف الارباح. أدرك جيدا ان بعض السياسات الحكومية الكارثية، وهناك قيادات ادارية عينتها الحكومة لعبت دورا فى تخسير وافشال العديد من المؤسسات والشركات وبالتالى فلا يمكننا ادانة الموظفين فقط، لكن للاسف نحن وصلنا إلى درجة ان المنظومة باكملها لم تعد قادرة على العمل ولو بمنطق «مشى حالك». القطاع العام والحكومى حقق ما يشبه المعجزة فى الستينيات وهو الذى تحمل بالكامل عبء اعادة بناء مصر بعد هزيمة 67، واعداد البلاد لانتصار 73 وبالتالى فالقضية ليست قطاعا عاما أو خاصا بل قضية ادارة وارادة سياسية وطنية اذا توافرت يمكنها ان تحقق المعجزات. التجارب لا تستنسخ لكن يمكن الاستفادة من القواعد والمبادئ والافكار، ينقصنا الان تعميق مبدأ المحاسبة والحزم والحسم فى القطاع الحكومى بل واحيانا القطاع الخاص، لكن الترهل فى القطاع الخاص، اقل وطئا لان الادارة فيه اكثر رشدا إلى حد ما مقارنة بنظيره الحكومى. المشكلة فى مصر صارت ذهنية وتتعلق اساسا بان بعض العاملين يعتقد ان من حقه ان يتقاضى اجرا من غير عمل أو انتاج كاف، وتصل الجرأة بالبعض إلى المطالبة بحوافز وارباح وهو لا يعمل وشركته أو مصنعه يخسر. نحتاج ان نعيد تعريف الاشياء البديهية، ونعلم الناس ان الاجر ليس مقابل العمل فقط بل مقابل الانتاج، وان نعلمهم ما تعلمناه ونحن صغار بأن «من جد وجد» و«من زرع حصد». من بين الكوارث الكثيرة التى تسبب فيها نظام مبارك هو اشاعة وترسيخ وتكريس قيم الفهلوة و«الطلسقة»، وعدم احترام التفوق والابداع والنجاح، مضافا اليها بالطبع افساد التعليم، هذه المنظومة هى التى ادت إلى ان المتطرفين والظلاميين وتجار الدين سرقوا البلد فى غمضة عين فى انتخابات برلمان ورئاسة 2011و 2012، واذا لم يتم تفكيك هذه المنظومة الان فسوف تعيد للاسف انتاج نفس التخلف والتطرف. اى عاقل لا يمكنه ان يرفض مبدأ الثواب والعقاب والمحاسبة، والاهم ضرورة اخضاع غالبية الوظائف لاختبارات دورية منتظمة خصوصا تلك التى تحتاج إلى رخصة لمزاولة المهنة، هذا امر يحدث فى كل العالم المتقدم حتى يضمنوا ان الجميع يطور نفسه ولا يتوقف علمه عند السنة النهائية فى كليته!. لا تقدم من غير عمل جاد، ولا عمل جادا من غير علم وتخطيط ومراقبة ومتابعة ومحاسبة، وللاسف الشديد، غالبية القيم السابقة تكاد تغيب عن مجتمعنا.