يعتبر ميدان «القناصل» أو محمد على كما أطلق عليه فيما بعد، قلب المدينة التجارى الذى يقع فى حى المنشية، والذى شهد العديد من الأحداث وتميز بتخطيطه المعمارى الدقيق الذى يغلب عليه الطابع الإيطالى، حيث صممه معمارى إيطالى يدعى فرانشيسكو مانشينى، ومن اسمه اشتقت كلمة «المنشية»، التى ارتبطت بذكرى محاولة اغتيال عبدالناصر. أدرك محمد على أهمية المدينة بعد تنصيبه واليا على مصر، فعمل على النهوض بها ووضع أسس تنميتها، ففى عام 1834 أنشأ مجلس «الأورناطو» وكان اختصاصه وضع لوائح البناء وتوسعة الشوارع، ويرجع إليه الفضل فى إنشاء «ميدان القناصل» أو «محمد على» فيما بعد، وأصبح الميدان قلب الثغر التجارى، وامتدت المدينة منه متتبعة التخطيط الأوروبى، خاصة الإيطالى، ويظهر ذلك جليا فى تصميم بعض المبانى، مثل مبنى وكالة «منشة» ووكالة «مونفراتو» ومبنى المحكمة المختلطة أو «الحقانية» وتعرضت الإسكندرية لمحنة قاسية بعد ضرب الأسطول البريطانى لها سنة 1882، وتركز الضرب حول ميدان القناصل «ميدان المنشية»، مما أدى لتخريب وهدم معظم العمائر الواقعة حول هذا الميدان، بالإضافة للعديد من المناطق فى كثير من أنحاء مدينة الإسكندرية. غير أن الحياة عادت مرة أخرى إلى الإسكندرية الاحتلال البريطانى واستقرار الأوضاع الأمنية، فأعيد بناء ما تهدم نتيجة قصف الأسطول الانجليزي.. ولكن ماذا عن ميدان القناصل؟. إن كرم سعيد باشا، وثروة مصر الخرافية، جعلا من البلد مقصدا لكل المغامرين، ففى 12 أكتوبر عام 1854، كتب قنصل فرنسا أنه "بمجرد انتشار خيبر وفاة عباس الأول، هجم الكثيرون من المغامرين والأفاقين والباحثين عن الذهب على مصر، كما لو كانت كاليفورنيا الجديدة، وقد عرضوا على الوالى الجديد مشاريعا خرافية وعبثية فى نفس الوقت، وأضاع الوالي الجديد الكثير على البلد بالدخول فى مثل هذه المشاريع، واستعان بالكثير من الأوربيين فى بلاطه، وللأسف معظمهم كان من المحتالين"، وفى ظل هذا الوضع كان قناصل الدول الأوربية ينتحلون، بدون وجه حق، الامتيازات التى كان يتمتع بها القناصل الرومان فى الزمن القديم ويساندون مواطنيهم ضد الدولة المصرية بالحق أو بالباطل. وفى عهد سعيد باشا اشتهر قنصلان فى مجال النصب والاحتيال: الأول هو مسيو دى ليون، قنصل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبما أنه لم يكن يوجد فى مصر وقتها سوى مواطن أمريكى واحد، فأن ليون لم يتردد قط فى إضفاء حمايه دولته على لاجئين إيطاليين وبولنديين، ورعايا تابعين للدوله العثمانية، مع أن هذا لايجوز، وكذلك أى شخص يدفع له من قيمه التعويضات التى يحصل عليها من الحكومة المصرية بالاحتيال. أما القنصل الثانى فهو الأشهر فى الاحتيال، ونقصد هنا المسيو «زيزينيا» zizinia، قنصل بلجيكا وصاحب أشهر أحياء الإسكندارية، الذي كان يمتلك معظم أراضى هذا الحى، قبل أن يبيعها للحكومة بسعر كبير لمد خطوط الترام به. وكان «زيزينيا» من الرعايا اليونانيين الذين نزحوا إلي مصر سعيا وراء الثروة، وحصل على الجنسية الفرنسية بحكم قربه من قنصل عام فرنسا في مصر، وبعدها ارتقى سلم المجد بسرعة بالغة، حيث عمل بعدها قنصلا عاما لبلجيكا في مصر، بتزكية من قنصل عام فرنسا الذي شد من أزره وعضد من مركزه في الكثير من المواقف التي بلغت حد الإضرار بمصر. ففى عام 1859 أدعى المسيو «زيزينيا» أن محمد على باشا أعطاه «وعدا شفويا» بمنحه امتياز خدمة تجارة الترانزيت فى مصر، وبما أن هذا الوعد لم يتحقق، طالب بتعويض من الحكومه المصرية. ومارس «زيزينيا» ضغوطا شديده على سعيد باشا في هذا الأمر، فاضطر إلى أن يعرض عليه تعويضا 30 ألف جنيها، ولكن «زيزينيا» رفض واستمر فى الضغط بمساعدة قنصل فرنسا، إلى أن عرض عليه سعيد باشا امتياز جباية عبور المراكب من هويس المحمودية، الذي يربط بين ترعة المحمودية وميناء الإسكندارية، وقدر أن هذا الامتياز سيجلب مبلغ 8 آلالف جنيها، أي ما يساوي 200 ألف فرانك وقتها، ورغم ذلك لم يتوقف «زيزينيا» عن رفع قضايا التعويض ضد الحكومة. وبعد ذلك رأت الحكومة المصرية خطر إعطاء مثل هذه الامتيازات للأجانب فاستعادت ملكية الهويس، ودفعت عام 1860 تعويضا لمسيو «زيزينيا» وصل 130ألف جنيها، أي ما يوازي ثلاثة ملايين فرنك فرنسى في هذا الحين. ولم يقف الأمر عند محتال واحد مثل «زيزينيا» بل تعداه إلى محتالين جدد، ظهروا جميعا في زمن واحد، كانوا عبارة عن جوقة أحاطت بالوالي من أمثال «روستي»، «كاستلاني»، «جبارا»، و«برافاي» الذى كان بطلا لرواية بعنوان Nabab، وهى كلمة هندية من أصل عربى "نواب"، المقصود بها الثرى العظيم. واشتهر «برافاي» الذي كان يشبه إلى حد ما «مضحك الملك»، حيث كان يلقي على مسامع سعيد باشا بأحدث النكات البذيئة وأكثرها إثارة، ورغم أنه كان رجلا جاهلا ومفلسا عديم الأخلاق، فقد قربه سعيد باشا من خاصته، بل وجعله مديرا لشئونه الخاصة، ومنحه حق الامتياز في استغلال أعمال التعدين والتنقيب في المناجم الواقعة بطول شاطئ البحر الأحمر، رغم أن «برافاي» هذا لم يمسك في يده يوما معولا، ولم يكن يعرف شيئا في مثل هذا المجال. واستطاع «برافاي» في نهاية الأمر جمع ثروة بلغت ثلاثين مليونا من الفرنكات، وحين حاول الوالي رد هذا الامتياز مرة أخرى، لم يجد أمامه إلا أن يدفع مليونا من الفرنكات على سبيل التعويض. وبلغت ثروة هذا المحتال 30 مليون فرنك فرنسي، مما جعله نائبًا في برلمان الإمبراطورية الثانية فقد كان عبقريًا في الدسائس.