وقف «على» بقامته المديدة خلف زجاج كافيتريا (موكا جوكا) يعد الساندويتشات وأكواب القهوة الساخنة لزبائن المقهى من زملائه الطلاب بجامعة ألفريد، وكنت أتأمله وهو يبادلهم القفشات والتعليقات ورأسه شامخ كأنه يستضيفهم فى منزله فلا الزبائن تستعلى على الجرسون الغلبان ولا الذى يخدمهم عينه مكسورة لممارسته العمل بالمقهى، وعندما تميل أحداهن لتهمس بأمر يتعلق بالسيدة التى تأتى للمقهى فى فترات عمل «على» فقط لتنكب على كتبها يبتسم بفخر شديد وهو يشير إلى: يا دكتورة يظنوننا أقارب لتشابه ملامحنا ولون عيوننا السود، وأرد عليه فخورة بانتمائنا المشترك إلى عروبتنا: ألسنا أقارب فعلا؟! فيرد لكن مجيئك إلى المقهى من أجلى يجعلنى أرفع رأسى عاليا لأنك «بروفيسور» والمقهى لا يرتاده إلا الطلاب لبساطته. ويسرع «على» ليكافئنى بوضع إحدى الأغانى التى أحبها بالكمبيوتر ويرتفع صوت محرم فؤاد بكلمات العبقرى مرسى جميل عزيز وألحان العظيم محمد الموجى: الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا فى البساتين الحلوة من الشباك طالة يحرسها الله ست الحلوين ويضحك على قائلا فى خجل: لا أفهم الكلمات وأود لو أشاركك الحالة التى تكونين عليها عند سماعك للأغنيات العربية فعيناك تلمعان بسعادة وأنت تهزين رأسك على الإيقاع وترددين الله.. ياسلام! التى أفهم معناها بالتقريب لأننى لا أتحدث العربية رغم أصولى اللبنانية لأننى ولدت بأمريكا ولا أعرف من لغتى الأصلية إلا بضع كلمات تسمح لى بالكاد بأداء فروض الصلاة، فأتحمس لأنقل للعربى الشاب المغترب معانى الكلمات السهلة/ الصعبة وأجدنى أبدأ شرح الأغنية الشعبية المفعمة بمشاعر البهجة والفرح واللوحات التى برع الشاعر فى رسمها للجميلة التى كان لخروجها المفاجئ إلى الشرفة ذلك الأثر العاصف بكيان الفتى الذى يأخذ فى استدعاء صور الجمال التى رأها من قبل فيجد أن فتاته الحلوة «السنيورة» تفوق اللوحات الفنية التى يبرع فى رسمها الفنانون للجميلات، ورغم ما يبذله «على» من جهد لفهم المعانى التى شرحتها مستدعيا من ذاكرته وصف والدته وجده للأجواء العربية، إلا أننى أكتشف أن الأمر أصعب من أن يتم بالترجمة الحرفية للكلمات لأن لكل كلمة من كلمات الأغنية مدلولا ثقافيا يحتاج الإلمام به إلى الغوص فى بحور الثقافة الشعبية بمهارة تستلزم الوقت والجهد والحب والانتماء.. إلخ وعندها فقط يمكن أن ننتقل إلى مرحلة التذوق والاستمتاع والطرب ورحت أساله: هل لاحظت كيف يقدر اللحن الراقص الطروب على الخروج بك من أحزانك وهمومك ليطير بك هكذا فلا ترى من الدنيا إلا جمالها البرىء كوجه الجميلة الذى اكتمل بحلاوته الإطار الوردى لشرفتها وهل تلاحظ كيف تتوحد نغمات اللحن الفرحة مع براءة دقات قلب الفتى وهو يندفع ليسجل وقوعه راضيا فى الحب من أول نظرة، ولا ينسى الفتى المفتون بجمال حبيبته أنه إذا أحب فلا سبيل إلى الحبيبة بغير الغرض النبيل والارتباط بالزواج. ويقرر «على» أن يسعى لدراسة لغته الأصلية التى يفتقد جمالها وعمقها وذلك بعد أن يستكمل كفاحه بالعمل المضنى ليسدد أقساط تعليمه الجامعى ليس فقط بالعمل فى المقهى ولكن بالعمل بالمكتبة مساعدا لأمين المكتبة وبعزف الطبلة لفرقة الرقص الشرقى وبالانتظام فى محاضراته بكلية الفنون الجميلة، وهو فى هذا يشترك مع زملائه من الطلاب الذين يدخلون معترك الحياة العملية مبكرين عما اعتدناه فى مجتمعاتنا الشرقية التى لا تطالب الدارس إلا بالمذاكرة والنجاح آخر العام ولا ينزل طلابنا للعمل والاعتماد على النفس إلا لعجز أسرهم عن الإنفاق عليهم فتصبح قيمة العمل لدينا مرتبطة بالحاجة الملحة للمال وليس بكون العمل قيمة فى ذاته وأنه تاج على رأس من يعمل أيا كان نوع العمل وقيمته فى السلم المهنى فلا يوجد من يمارس الفشخرة الكدابة بقوله: واشتغل ليه واتمرمط هما أهلى محتاجين؟! ويذهب (على) لأستمع إلى الكلمات الطروبة وأتساءل: لماذا لم أكن أرى وأحس كل هذا الجمال فى أغانينا وفى صوت الشيخ رفعت وصوت الشيخ سيد النقشبندى بالكيفية التى أشعر بها بعد اغترابى عنها ورحيلى إلى كوكب آخر لا يتحدث بلغتنا سكانه،وأحسد نفسى على أننى أتحدث وأفهم وأعبر بتلك اللغة الغنية المعقدة والتى تحققت لها مع التراكم الثقافى للتاريخ الطويل كل هذه القيمة الرفيعة. وأكتشف أن رحلتى إلى بلاد الفرنجة لم تكن لكى أتعرف على ثقافة تلك الشعوب بقدر ما كانت لكى أدرك قيمة «ثقافتى» التى ما إن رأيتها خارج إطارها التقليدى حتى فتنت بما كشفت لى عنه من كنوز كان الاعتياد يطمرها، وكان التداول السهل لا يعطيها ما تستحقه من اهتمام وساهم تدهور التعليم فى اغتراب أبنائها عن ثقافتهم فمضوا يدرسونها على أيدى ضيقى الأفق من المعلمين، ومحدودى الفهم من واضعى المناهج، والذين يأخذون موضوع الثقافة والإبداع «سبوبة» ولقمة عيش، لتتحول أجمل وأقوى ملامحنا الثقافية إلى «سم ناقع» يتجرعه التلاميذ مضطرين من أجل المجموع وليس بصفته «العسل المصفى»والعروة الوثقى والنفس المطمئنة. وصار مسئولونا حملة الألقاب يسمون خيبتهم اللغوية بساطة وخفة روح. فشكرا لله أن دفع بى مرغمة إلى التعايش مع ثقافة غريبة غيرت موقعى فى النظر إلى ثقافتنا بنظرة بانورامية، فلم أستكثر ما عانيته من الغربة المريرة والوحشة والوحدة كثمن للاكتشاف الباهر لراقاتها الجيو/لغوية/ ثقافية المتعددة. وأنادى العزيز (على) لنذهب بعد الوردية إلى كوخى ليأكل معى (كشرى) وملوخية.