أرأيت الذى جرى لمصر خلال العقود الأخيرة. التى تراجعت فيها فكرة الدولة بصورة تدريجية، الأمر الذى أعادها إلى عصر القبيلة من أوسع أبوابه. (1) حين أثير موضوع حل مجلس الشعب طوال الأسابيع الماضية كان الرد الرسمى الذى صدر على لسان أكثر من مسئول أن القرار بيد الرئيس. إن شاء حله وإن شاء أبقاه. [للعلم فقط: فى ظل ولاية الفقيه بإيران لا يملك المرشد قرار حل مجلس الشورى المنتخب]. وحين تظاهر خبراء وزارة العدل مطالبين بإنصافهم فإن اللافتة التى رفعوها ونشرت صورتها مختلف الصحف تضمنت عبارة واحدة هى: أغثنا يا سيادة الرئيس. العبارة ذاتها كتبت على لافتة أخرى رفعها نفر من المحامين صدر لصالحهم 45 حكما من المحكمة الإدارية العليا قضت بأحقيتهم فى التعيين بهيئة قضايا الدولة. وحين اختلفت هيئة المجتمعات العمرانية مع هيئة الآثار حول مد طريق فى إحدى مناطق الساحل الشمالى. فإن الإشكال لم يحل إلا حين تدخل الرئيس ووافق على شق الطريق. وحين ثارت مشكلة بين محافظ الإسكندرية والبابا شنودة بسبب هدم مبنى غير قانونى تابع للكنيسة فى منطقة كنج مريوط. فإن الرئاسة تدخلت لاحتواء الأزمة وأمرت بترميم البناء. ليست هذه حالات استثنائية ولكنها ظاهرة مستمرة. كل فئة تواجه مشكلة مع الإدارة فإنها لا تجد سبيلا لحلها إلا باللجوء إلى الرئيس. وهذا يحدث على مستوى الأفراد أيضا حين تصل مشكلاتهم إلى مسامع الرئاسة. وقصة تلميذة الدقهلية «آلاء» التى ألغى امتحانها لأنها انتقدت الحكومة فى موضوع للإنشاء، ولم يسمح لها بالاستمرار فى الدراسة إلا بعد أن صدرت الإشارة من رئاسة الجمهورية. حتى الوزراء الذين يدخلون أو يخرجون. فإن مصيرهم تحدده الرئاسة. ولايزال الخروج المفاجئ لوزير الرى الدكتور محمود أبوزيد سرا مفتاحه هناك. ذلك يسرى بذات القدر على تمسك الرئاسة بترشيح وزير الثقافة فاروق حسنى لمنصب مدير اليونسكو رغم ضعف حظوظه. وهو قرار حير الجميع وأثارت أسبابه ومازالت لغطا كثيرا. وهو يسرى بقدر أكبر على التعيين المفاجئ لوزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان فى منصب رئيس شركة خدمات البترول البحرية. وهو ما بدا لغزا صادما وعصيا على الفهم خصوصا فى ظل سجل التجاوزات الحافلة المنسوبة إليه، تلك التى دفعت 48 نائبا بمجلس الشعب إلى تقديم بلاغ ضده إلى نيابة الأموال العامة، لم يعرف مصيره. وخطورة هذا القرار ليست فقط فى كونه يعيد إلى الأضواء وزيرا لاحقته السمعة السيئة التى بسببها خرج من الوزارة، وإنما أيضا فى أنه يعبر عن الاستهانة الشديدة برأى الناس. إذ تبعث إلى الجميع برسالة تقول إن الرأى رأى الرئاسة وحدها، ولا قيمة أو زن للرأى العام. ليس الأمر مقصورا على شخص الرئيس. وإنما أدرك كثيرون أن أسرته باتت مركز القوة والقرار، حتى تحدث العنوان الرئيسى لصحيفة «الدستور» (عدد 12 7) عن «انتشار ظاهرة التوسل بجمال مبارك». وبعض المناشدات التى توجه إلى الرئيس تعمد أحيانا إلى إيراد اسم الابن جمال والسيدة قرينة الرئيس، التى تلجأ جهات عدة إلى استخدام اسمها وربما بغير علمها. لإنجاز مصالحها وتجاوز ما يصادفها من عقبات. إن وظيفة «كبير العائلة» التى ابتدعها الرئيس أنور السادات ولم يمهله القدر لكى يمارسها، أصبحت واقعا فى عهد خلفه. واستقر ذلك الواقع حين طالت سنوات حكم الرئيس مبارك. بفضل التعديل الذى أدخله السادات على الدستور، وأطلق بمقتضاه فترات ولاية رئيس الجمهورية، التى كانت محددة بمدتين فقط. وحين يكون المرجع «هو كبير العائلة» فذلك يعنى أننا صرنا فى واقع لا يحتكم فيه الناس إلى نظام أو قانون يقرر الحقوق والواجبات. (2) ما جرى مع مجلس الشعب يوضح الصورة أكثر. ذلك أن دور «كبير العائلة» مورس بذات القدر على مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها السلطة التشريعية التى يفترض أنها منتخبة من الناس. ففى العام الماضى (2008) تقدم نقيب المحامين السابق (سامح عاشور) بمشروع لتعديل تشكيل مجلس نقابة المحامين، تقضى مادته الأولى بأن يضم مجلس النقابة أعضاء المجلس القديم ومعهم النقباء الفرعيون. تبنى المشروع ومرره بليل الدكتور عبدالأحد جمال الدين زعيم الأغلبية فى المجلس. وهو ما أثار جدلا كبيرا داخل المجلس. من جانب ممثلى المستقلين الذين قالوا بعدم دستورية المادة المذكورة. ولكن الحزب الوطنى أيد المشروع وصوتت الأغلبية لصالحه بعد موافقة اللجنة التشريعية عليه. وبعد أن تم ذلك كله جاءت التعليمات من الرئاسة بحذف المادة التى أثارت الجدل فى المشروع. وهو ما تم على الفور فى جلسة 16/ 6 / 2008. من ثم فإن الأغلبية التى صوتت لصالح الإبقاء على المادة. هى ذاتها التى صوتت على حذفها، امتثالا لرأى رئاسة الجمهورية. فى العام الذى سبقه (2007) حدثت قصة مماثلة. إذ قدم مشروع بخصوص تقرير عقوبة الحبس فى الجرائم التى تقع بطريق النشر. (كان من بينها التشكيك فى الذمة المالية) وكانت الأغلبية مع فرض تلك العقوبة. الأمر الذى أدى إلى تمرير المشروع أمام اللجنة التشريعية وفى الجلسة الأخيرة التى كان يفترض أن تتم فيها الموافقة النهائية عليه، أعلن الدكتور فتحى سرور رئيس المجلس أنه تلقى اتصالا من رئيس الجمهورية طلب فيه إلغاء العقوبة. وهو ما استجاب له المجلس على الفور، بحيث انقلب موقف الأغلبية بنسبة مائة فى المائة. حيث تحول رأيها من الموافقة على المشروع والحماسة له، إلى معارضته ورفض تمريره. الطريف أن الدكتور سرور قال فى الجلسة إن الرئيس باعتراضه على تلك المادة «أعطى درسا للحكومة»، ولم يشر إلى المجلس الذى يدخل التشريع فى صميم اختصاصه وليس الحكومة. فى عام 2006 حدث ما هو أفدح وأفصح. ذلك أنه بعد صدور قانون إلغاء محاكم أمن الدولة وتوزيع اختصاصاتها (فى سنة 2003) قدم إلى مجلس الشعب مشروع يقضى بإضافة نص إلى قانون الإجراءات الجنائية يعطى النيابة العامة سلطة حبس المتهم لمدة ستة أشهر بدلا من 45 يوما دون أن يعرض على قاضيه الطبيعى. وهو نص معيب تضمنه قانون محاكم أمن الدولة الاستثنائى. هوجمت المادة المقترحة (206 مكرر) من جانب أغلب الأعضاء. وكان الدكتور سرور من بين الذين اعترضوا عليها. وقال فى جلسة عامة (عقدت فى 11 / 6/ 2006 إن هذه المادة لا تتفق مع روح القانون، وأن مكانها قد يكون قانون الطوارئ أو قانون الإرهاب، لكنها لا ينبغى ألا تكون جزءا من القانون العادى. أسفر الجدل فى مجلس الشعب على موافقة الأغلبية على حذف المادة. وحين أرسل المشروع إلى الحكومة لإصداره، فإنها ردته إلى المجلس مرة أخرى فى 3 /7 وطلبت إعادة المداولة فى المادة المحذوفة. وهو ما دفع الدكتور سرور إلى طلب إعادة التصويت عليها مرة أخرى. كان واضحا أن هناك تعليمات عليا بإعادة المادة وتوسيع سلطة النيابة العامة فى الحبس، فما كان من الأغلبية إلا أن غيرت موقفها، وأيدت المادة التى سبق أن اعترضت عليها. فى هذه الحالات الثلاث لم يكن مجلس الشعب مشرعا ولا «سيد قراره» كما يشاع. لكنه فى حقيقته كان يؤدى وظيفة الامتثال للرغبات «العليا». وإذا كان ذلك شأن من يفترض أنهم منتخبون من الناس، فلك أن تتصور النفوذ الذى أصبح يمارسة كبير العائلة فى أوساط السلطتين الأخريتين التنفيذية والقضائية علما بأن العاملين فى هاتين الجهتين يعدون فى نهاية المطاف ضمن موظفى الحكومة. (3) فى كتابه المهم «مصر بين العصيان والتفكك» عرض المستشار طارق البشرى بالتفصيل كيف تمت السيطرة على مختلف سلطات الدولة، مشيرا إلى مساعى القضاة للدفاع عن استقلالهم والمعارك التى خاضوها لأجل ذلك. ولأن الكتاب طبع فى عام 2006 (عن دار الشروق) فإنه لم يتطرق إلى التطورات الأخيرة التى أدت إلى تراجع تيار استقلال القضاء والنجاح النسبى الذى حققته السلطة فى بسط هيمنتها على أهم عناصر المرفق. (المستشار يحيى الرفاعى شيخ القضاة له دراسة مستفيضة حول هذه المسألة. أصدرها بمناسبة قراره الاحتجاجى باعتزال المحاماة). تحدث المستشار البشرى أيضا عن عملية تفكيك أجهزة السلطة التنفيذية وإعادة تشكيلها بحيث يتم التحكم فيها. فذكر أن النظام السياسى نجح فى السيطرة على القيادات العليا للدولة، من خلال ما ابتدعه من نظم وقوانين تقرر مددا قصيرة لهذه القيادات فى وظائفهم وأعمالهم. ثم منح نفسه بهذه النظم والقوانين سلطة المد لهم فى أعمالهم سنة بسنة أو سنتين بسنتين أو ثلاث بثلاث. وذلك بالمشيئة الذاتية لرئيس الجمهورية أو من بمثله. وقد وضع هذا النظام لقيادات الدولة المدنية ولقيادات القطاع العام وللقيادات العسكرية ولقيادات الشرطة، وذلك إحكاما للقبضة الفردية. وبهذا الأسلوب تم هدم النظم القائمة، بما تضمنته من تراتب وهياكل وأبنية. لصالح تكريس الإرادة الفردية. وهو ما وصفه بأنه مسعى لشخصنة الدولة، التى فى ظلها «اندمج النظام القانونى فى المؤسسات القائمة على التنفيذ والخاضعة للإرادة الشخصية المتوحدة على قمة الدولة». والقائم عليها «يسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت أمرته. ولا يقيده إلا الإمكانات المادية للدولة وأجهزتها فى الحركة والنفوذ. وهو ما يسلط الضوء على الكيفية التى تم بها تهميش المؤسسات بعد إضعاف دور النظام والقانون. (4) تختلف الدولة عن القبيلة فى أمرين جوهريين هما القانون والمؤسسة. فى الدولة يتراجع دور الفرد بصورة نسبية فى إدارة المجتمع. لأن القانون يحكمه والمؤسسات المدنية تحمله. والقانون ينبغى أن يكون معلوما سلفا للكافة بحدوده ودرجاته المختلفة، سواء كان دستورا أو قانونا أو لائحة. وعند عالم الاجتماع ماكس فايبر فإن القانون كان ضروريا للرأسمالية لأنها تقوم على التوقع. حيث العجز عن التوقع يؤدى إلى إصابة النشاط الإنسانى بالشلل. كما أن المؤسسة ضرورية لتجنب شرور الحكم المطلق. وحين تغيب أو تضعف سلطة القانون بحيث تصبح إرادة الفرد هى الفاصلة أو هى التى تتلاعب بالقانون. وحين تفرغ المؤسسات من مضمونها، بحيث تصبح هياكل خاوية بلا دور حقيقى، حينئذ تصبح الدولة اسما على غير مسمى. ويغدو النظام أقرب إلى القبيلة منه إلى الدولة. بل ربما أصبحت الدولة مماثلة للقبيلة فى أضعف حالاتها. لأن القبيلة فى صورتها الحية، لها مجلس من أعيانها ولها أعرافها التى غدت قانونا يحكمها مسلما به. أما القبيلة الأضعف فهى تلك التى يغيب فيها العرف والقانون ويصير شيخها هو صاحب الأمر والنهى فيها، وتصبح الأسرة هى المؤسسة الوحيدة المعترف بها. وإذا استمر الوضع الراهن فأخشى أن يستمر تراجعنا بحيث ننسى تماما فكرة الدولة ويصبح أملنا يوما ما أن نستعيد صورة القبيلة فى عافيتها وحيويتها.