استقرار أسعار الذهب في مصر ونصائح للشراء    قبل تفعيله الثلاثاء المقبل.. ننشر المستندات المطلوبة للتصالح على مخالفات البناء    «العمل»: التواصل مع المصريين بالخارج أهم ملفات الوزارة في «الجمهورية الجديدة»    إعلان جديد من جيش الاحتلال بشأن عملية إخلاء المدنيين من شرق رفح    الرئيس الصيني شي يلتقي ماكرون وفون دير لاين في باريس    تحذير: احتمالية حدوث زلازل قوية في الأيام المقبلة    مفاجأة بشأن مستقبل ثنائي الأهلي    طقس شمال سيناء.. سقوط أمطار خفيفة على مدينة العريش    في يوم شم النسيم.. رفع درجة الاستعداد في مستشفيات شمال سيناء    تحذير من خطورة تناول الأسماك المملحة ودعوة لاتباع الاحتياطات الصحية    تراجع سعر الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الإثنين 6 مايو 2024    محمد صلاح يُحمل جوزيه جوميز نتيجة خسارة الزمالك أمام سموحة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 6 مايو    تزامنا مع بدء الإخلاء.. تحذير من جيش الاحتلال إلى الفلسطينيين في رفح    موعد وقفة عرفات 1445 ه وعيد الأضحى 2024 وعدد أيام الإجازة في مصر    وسيم السيسي يعلق علي موجة الانتقادات التي تعرض لها "زاهي حواس".. قصة انشقاق البحر لسيدنا موسى "غير صحيحة"    نيرمين رشاد ل«بين السطور»: ابنة مجدي يعقوب كان لها دور كبير في خروج مذكرات والدها للنور    عاجل.. أوكرانيا تعلن تدمير 12 مسيرة روسية    سعر التذكرة 20 جنيها.. إقبال كبير على الحديقة الدولية في شم النسيم    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    أخبار التكنولوجيا| أفضل موبايل سامسونج للفئة المتوسطة بسعر مناسب وإمكانيات هتبهرك تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo وOnePlus Nord CE 4 Lite    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الشروق» ترصد رحلة أسرة فلسطينية هربت عام 1948 من مذابح الصهاينة إلى مصر
على خطى العائلة المقدسة.. حكاية 66 سنة من التهجير والألم


• أرضهم تم اغتصابها لبناء جامعة «بن جوريون»
• الأبناء يلتحقون بالتعليم الأزهرى فقط ومحرومون من الكليات العلمية بسبب ارتفاع المصروفات
• من «بئر البسع» إلى مصر.. عائلة «الشيخ عيد» أصبحت 2500 فرد وتعيش فى أكثر من 350 منزلًا بقرية «عرب درويش» بالشرقية
«فلسطينيو 1948» فى انتظار ما لا يأتى.. العودة أو الجنسية المُهجرون الفلسطينيون.. بعيدون عن الوطن قريبون من السماء
• سكنوا فى خيام الصوف مؤقتاً.. وبعد النكسة قرروا بناء منازل دائمة
• كانوا برتملون لمدة 6 شهور بحثاِ عن الحشائش للجمال
منذ أن احتلت العصابات الصهيونية الارض العربية فى فلسطين عام 1948، جرت تطورات الاحداث على أن يتجمع الفارون من جحيم الاحتلال إلى الحدود القريبة للإقامة بشكل مؤقت فى خيام تأويهم، ومع تأزم القضية واستمرار العدوان تحول المؤقت إلى دائم والخيام إلى «مخيمات»، وفى مصر تقطن مئات الأسر والعائلات منذ النكبة وحتى الآن، بعيدون عن تقلبات السياسة وتغيرات الأنظمة، يتداخلون فى علاقات نسب ودم مع المصريين.. «الشروق» زارت قرية «عرب درويش» التابعة لمركز فاقوس بالشرقية، حيث تعيش أكثر من 370 أسرة فلسطينية ينتسبون إلى عائلة «الشيخ عيد».
قبل ست وستين سنة، وفى الوقت الذى كانت تدور فيها المعارك على أشدها بين الجيوش العربية، والعصابات الصهيونية فى أعقاب إعلان إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلية فى 15 مايو 1948، كانت الطفلة «عزيزة» محمد سالم البراهمى تنتقل هربا بصحبة والدتها الحاجة مليحة «مصرية الجنسية»، من منزلهم بوادى حنين بمنطقة «بئر السبع»، باتجاه مدينة «اسدود»، وبعدها إلى غزة هربا من مذابح العصابات الصهيونية، التى هاجمت منازلهم.
الحاجة عزيزة متمسكة بمفتاح منزلها فى بئر سبع أملا فى العودة
تجلس الحاجة عزيزة، 72 عاما، أمام منزلها بقرية عرب درويش بمدينة فاقوس بالشرقية، وبينما كانت تمسك بيدها مفتاح «العودة» لمنزلهم بمدينة «بئر السبع» وتروى ل«الشروق» أن عائلتها استغلت هدنة استمرت 3 أيام توقف فيها إطلاق النار حتى يستطيع والدها الانتقال بالعائلة إلى سيناء، وفور تمكنهم من ذلك انطلقوا سيرا على الأقدام، وباستخدام الجمال إلى مصر غربا، وبعد نحو ساعة سألت الأم «مليحة» زوجها «محمد» إذا ما كانت رضيعتها «مريم» والتى لم يتجاوز عمرها 20 يوما بصحبته، فجاء الرد بالنفى، لتكتشف الأم أن الهرب من ويلات الحرب أنساها طفلتها.
تعتدل الحاجة عزيزة فى جلستها، وهى حريصة على أن يظل «مفتاح العودة» ظاهرا لمن يحدثها وتكمل: أنا كان عمرى تقريبا 6 سنوات، لكن عمرى مانسيت أمى ورجوعها وحيدة لإحضار أختى «مريم»، فيما استمر والدى بصحبتنا خوفا علينا من البقاء فى الصحراء، وهو ما نجحت فيه بالفعل، لتنطلق العائلة المُهجرة فى طريقها قاصدين منطقة «السلطان حسن» التابعة لمركز أبوكبير بمحافظة الشرقية، حيث تعيش عائلة الأم، وهناك استقرت الأسرة على أمل العودة القريبة إلى فلسطين، فحرص الأب على أن يزوج نجلته عزيزة من أحد أبناء عمومته من عائلة «الشيخ عيد»، وهو «حميد حسين» الذى كان يستقر مع عائلته على بعد عشرات الكيلو مترات ب«عرب درويش».
على خطى العائلة المقدسة جاء خط سير أغلب المُهجرين من فلسطين فى 1948، وعلى الرغم من أن الفاصل الزمنى بين رحلة النبى عيسى وأمه السيدة مريم البتول عليهما السلام وتهجير العائلات الفلسطينية يتجاوز الألفى عام، إلا أن الفرار من الاضطهاد والاتجاه غربا إلى مصر، مرورا بمحافظة الشرقية يجمع العائلتين، بينما واصلت الأولى رحلتها باتجاه القاهرة ووادى النطرون بحسب الرواية القبطية، استقر كثير من الفلسطينيين فى الشرقية.
عائلة تختصر الوطن
«نحن أصلا من قبيلة الترابين الموجودين منهم بسيناء، والشيخ عيد وأحد من فروعها وحاليا يتواجد فى مصر 672 أسرة من نفس العائلة تتنشر بطول مصر نصفها على الأقل بالشرقية»، هكذا يشرح إبراهيم حميد، 50 عاما، شجرة العائلة التى ينحدر منها.
إبراهيم الذى ولد بالشرقية 1963، ويعمل مديرا إداريا لفندق فلسطين الملحق بالمستشفى التى تحمل نفس الاسم بضاحية مصر الجديدة، يقول ل«الشروق»، إن عائلة الشيخ عيد التى كانت تقيم فى منطقة بئر السبع فى صحراء النقب، وتم تهجيرها فى أعقاب النكبة، تنقسم إلى نحو 12 «رُبع» بحسب التعبير الدارج الفلسطينى، بينهم «العوايضة» التى ينتمى إليها والده وكل الفلسطينيين المقيمن ب«عرب درويش»، و«البراهمة» التى تنتمى إليها والدته الحاجة «عزيزة»، ويضيف أن «الشيخ عيد» الذى لقبت العائلة باسمه على الأرجح من مواليد أواخر القرن الثامن عشر فى نفس المدينة.
حصل إبراهيم على بكالوريس الزراعة من جامعة الأزهر فى عام 1984، وكان أبوه المولود فى عام 1926 تعلم القراءة والكتابة فى كُتاب «الشيخ محفوظ» ببئر سبع، لكنه لم يحصل على شهادة دراسية، ولم يمنعه ذلك من العمل كقاضٍ عرفى بين الناس حتى بعد تهجيره إلى مصر.
لا يعلم إبراهيم «المهندس الزراعى» وكذلك والده الراحل، إن الأرض التى قامت عليها منازل عائلته وجيرانه، وكذلك «كُتاب الشيخ محفوظ» ببئر السبع، أقيم عليها الآن جامعة «ديفيد بن جوريون»، والتى تأسست فى عام 1969، وظلت تحمل اسم «جامعة النقب» حتى 1973، حينما قرر مجلس أمناء الجامعة تغييره لتحمل اسم أول رئيس لدولة الاحتلال الإسرائيلى، والذى توفى فى العام ذاته، اللافت إلى أن الجامعة التى بُنيت على أرض مغتصبة تُصنف بحسب موقعها الرسمى فى مرتبة متقدمة عالميا بسبب اهتمامها بمجالات «حماية البيئة» و«اتباع سياسات صديقة للبيئة».
كلنا فى الهم عرب
عندما كانت السيارة تنهب الطريق بين القاهرة والشرقية بهدف الوصول إلى قرية «عرب درويش»، كان الهدوء هو سيد الموقف، وبينما انشغل دليل «الشروق» إبراهيم بالاتصال بأفراد عائلته لإبلاغهم باقتراب وصوله مع «صحفيين من القاهرة»، كان رنين هاتف يوسف أبوكاشف، الفلسطينى المهتم بالتوثيق، وزميل إبراهيم فى العمل بالمستشفى ينقل صوت فيروز تشدو للقدس: «لأجلك يا مدينة الصلاة نصلى».
أبوكاشف يقول إنه جاء إلى مصر ضمن المهجرين فيما بعد حرب 1967، لكنه استقر مثل كثيرين غيره فى مناطق مختلفة بالقاهرة أغلبها فى «عين شمس»، مرجعا ذلك أن من هجروا من ديارهم فى أعقاب النكبة استخدموا الجمال قادمين عبر دروب سيناء وحتى وصلوا إلى أقرب مكان يمكنهم المعيشة فيه بالشرقية والمحافظات الأخرى مثل البحيرة والمنوفية، ومع تطور وسائل المواصلات كان وصول الفلسطينيين، الذى احتلت أرضهم عقب النكسة أكثر سهولة إلى العاصمة المصرية.
أبناء عائلة الشيخ يحافظون على الزى القديم حتى الآن رغم تغيير محل الإقامة
بين الحين الآخر كانت تظهر الجمال المذبوحة على جانب الطريق تمهيدا لبيع لحومها، وتعد التجارة فى الجمال وبيع لحومها واحدة من أبرز تأثيرات الفلسطينيين على المقيمين فى الشرقية، إذ كانت تربيتها وبيعها واستخدامها فى النقل واحدة من الأعمال التى يقتات منها الفلسطينيون فى أعقاب مجيئهم إلى مصر.
بين لحظة وأخرى كانت تظهر الترع والقنوات الصغيرة، وهو ما فتح شهية أبوكاشف للحديث عن طبيعة منطقة بئر السبع الصحراوية، ولدى مرورنا بترعة «العباسة» الواسعة، انتقل أبوكاشف للحديث عن أزمة مياه النيل التى تواجهها مصر، مبديا انزعاجه من بناء سد النهضة الإثيوبى واحتمال تأثير ذلك على ورادات مصر من مياه النهر الخالد، وأضاف فى لهجة المثقف المطلع: «الأزمة أن مشكلة المياه تعانى منها جميع الدول العربية، فجميع مصادر المياه تأتى من خارجها»، وهو ما فهمته إسرائيل فى عام 1967 عندما كانت حريصة على السيطرة على نهر الأردن لضمان سحب المياه منه.
لم يكد أبوكاشف يفرغ من كلامه الذى أظهر تأثره بالحياة فى مصر، حتى كان إبراهيم يؤكد ضرورة تناول الغداء فى المنزل قبل إجراء اللقاءات مع أفراد العائلة، الذين يمثلون الأغلبية فى «عرب درويش»، وعندما حاولنا إقناعه بأن نعمل أولا أجاب بلهجة قاهرية «أنا فلسطينى شرقاوى»، قبل أن يضيف ضاحكا: «عايزين تفضحونا.. إنتو فاكرينا منايفة ولا إيه؟».
بعيدا على القرب
3 ساعات ونصف الساعة تقريبا استغرقناها للوصول إلى «عرب درويش» باستخدام السيارة، بسبب كثرة الطرق الفرعية والاختناقات الناجمة عن الزحام فى المدن المؤدية إليها، الغريب أن تلك المدة تمثل تقريبا ثُلث المدة، التى يحتاج إليها فلسطينيو «عرب درويش» للوصول إلى وطنهم الأم، وتحديدا فى مدينة بئر سبع باستخدام السيارة بحسب تقديرات موقع «جوجل» خرائط وبطول مسافة تقدر بنحو 680 كيلو مترا، ووصولا إلى «وطن الأجداد» فى النقب «البعيد» واقعيا «القريب» جغرافيا.
فى منزل، إبراهيم حميد، كانت العائلة حريصة على إبراز «الكرم الشرقاوى» المُطعّم بالنكهة الفلسطينية، وبدا لافتا حرص أبناء عائلة «الشيخ عيد» على تقديم «خبز الصاج» الذى يشتهر به الفلسطينيون، ويعرفه المصريون فى المطاعم باسم العيش «السورى».
أثناء تناول الطعام يحكى إبراهيم عن والده الذى تزوج من 3 سيدات الأولى والثالثة فلسطينيتان، والثانية مصرية، ويوضح أن دأب العائلة كان دوما هو الزواج المبكر بالنسبة للأولاد فى سن 16 عاما، وكثرة الإنجاب.
ولا يزال إبراهيم يذكر كيف أن زواجه فى الرابعة والعشرين من عمره كان مثار حديث القرية وأقاربه جميعهم، لكنه اختلف عن والده بالزواج من سيدة واحدة، لكن الحرص على زيادة النسل ظل متوراثا فى العائلة إذ أنجب 4 أولاد ومثلهم من البنات.
استقر أبناء «الشيخ عيد» فى وطنهم المؤقت بفاقوس بحسب اعتقادهم حينها وسرعان ما التفتوا إلى ضرورة البحث عن عمل يوفرون من خلاله المأكل والمشرب على الرغم من ترحيب المصريين ومساعدتهم.
وبحسب، حسين حميد، المولود فى مدينة بئر السبع فى عام 1948، والذى انتقل إلى مصر مُهجرا رضيعا مع عائلته، فإن علمهم كان ينقسم إلى موسمين الأول فى الصيف عندما كانوا يذهبون إلى الغربية والمنوفية سيرا على الأقدام لفترات تتجاوز الأيام الستة، يصحبون معهم الجمال التى ترعى على حشائش الأرض، ويجمعون الغلال والذرة، قبل أن يتوجهوا إلى سوق «إمبابة» فى القاهرة لبيع الجمال التى بحوزتهم، وشراء أخرى صغيرة، وكانت تستغرق تلك الرحلة نحو 6 شهور.
ويقول الحاج حسين ل«الشروق»، إن الجزء الثانى من عمل العائلة كان فى فصل الشتاء فى مكان تواجدهم بالشرقية، حيث يعملون على تسمين الجمال تمهيدا لبيعها فى الصيف، وهكذا استمر حال العائلة طوال الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات من القرن الماضى.
ويشرح حسين كيف أنهم ولدى مرورهم بأى قرية اثناء ترحالهم النصف سنوى، يستقبلهم أهالى البلاد بجملة لا يزال يحفظها «هو إحنا لاقيين مكان للمصريين لما يجيلنا كمان الفلسطينيين»، ويردف سريعا: بعد تلك الجملة يبدأ قائلها فى الضحك، إذ إنها كانت نوع من «المشاكسة والمزاح».
الخيام مقابل السلام
لا توجد تباينات ملحوظة فى الأحوال المعيشية لأهالى «عرب درويش» من الفلسطينيين، إذ تغلب البساطة إن لم يكن الفقر على جميع المنازل القائمة حاليا بالقرية، واغلبها بُبنى بالطوب الأبيض «البلوك»، أما تلك الديار المبنية بالطوب الأحمر فمعظمها تم «محارته بالأسمنت» ولا شىء أكثر من ذلك، باستثناء قاعة فسيحة أمام منزل أسرة «حميد الشيخ عيد»، إذ تبدو أكثر رفاهة بالمقارنة مع غيرها من منازل القرية، وتبين أنها «ديوان» تم تجديده على نفقة السلطة الفلسطينية، نظرا لأنه يستخدم فى جلسات التقاضى العرفى بين ابناء القرية من المصريين أو الفلسطينيين، وتبرز بداخلها صور الرئيس الفلسطينى، الراحل، ياسر عرفات، والرئيس الحالى، محمود عباس أبومازن.
يشرح الحاج حسين حميد ل«الشروق» فلسفة البناء الخاصة للفلسطينيين فى «عرب درويش» بقوله، فى أعقاب النكبة 1948 ظل اليقين فى نفوسنا بالعودة إلى الوطن فى وقت قريب، ولذلك ظلت الأسر الفلسطينية تقيم فى «خيام الشَعرْ» المصنوعة من صوف الإبل والأغنام والماعز فى فصل الشتاء، واستبدالها بخيام أخرى مصنوعة من «شكائر الخيش» الخفيف فى الصيف.
وتابع حسين: بعد نكسة يونيو 1967 أصبح واضحا أن اليقين فى العودة إلى فلسطين أصبح بعيدا إلى حد كبير، فبدأ بعض المُهجرين فى السعى لبناء المنازل باستخدام الأطواف الطينية وإقامة الأسقف من فروع الأشجار وجريد النخل، قبل أن يتطور بعضهم ويبنى منازل ب«الطوب اللبن».
ويؤرخ حسين، الذى لم يحصل على شهادة تعليمية، للتطور العمرانى للقرية ولعلاقة عائلته بالمبانى، إذ يقول: بعد اتفاقية أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية، وإسرائيل والذى ينص على اعتراف متبادل بين الطرفين وتابع: «أول ما قالوا الأرض مقابل السلام.. قلنا عليه العوض»، وبدأ بعضنا فى بناء المنازل بالخرسانة المسلحة.
رقصة الدبكة فى شوارع فاقوس
عندما كانت «الشروق» تتجول فى شوارع «عرب درويش» تطوع احمد محمد سليمان، 16 عاما، طالب بالصف الأول الثانوى، ليكون دليلنا لمقابلة أفراد الاسر المختلفة التى تنتمى إلى عائلته، والذين يقدر عددهم بنحو 2500 شخص، فى الطريق بادرته بالسؤال: «بتسمع أغانى لمين؟ فأجاب: ناس كتير بس بحب جورج وسوف ومحمد عساف.. أنا فرحت أوى لما فاز فى المسابقة اللى كان فيها علشان فلسطينى وصوته حلو».
ومع استمرار تجولنا بالشارع، بدأ بعض من أقران احمد بالانضمام إلى خط سيرنا، لكنهم اغلبهم لم يتفاعلوا مع سؤال بشأن قدرتهم على رقص الدبكة الفلسطينية، لكن أحمد عاد مرة أخرى، للتأكيد أن بعض أفراد عائلته يعرفون تلك الرقصة، ويؤدونها فى الأفراح الخاصة بهم، وبعد تردد وطول نظر وابتسام مكتوم فى وجوه أقرانه خوفا من سخريتهم، وافق الشاب خفيف الوزن على رقص الدبكة فى شوارع «عرب درويش»، واخذ موقعهفى منتصف الشارع ليتحرك على سجيته بينما كان قرص الشمس يتوسط السماء، لتبدو، وكأنها الأضواء التى تسلط على خشبة الطريق العام، فيما بدأ أقرانه فى التصفيق بالطريقة المميزة للرقصة لتشجيع صديقهم.
لا تتوقف حدود موهبة أحمد عند رقص الدبكة وحسب، فقد كان واحدا من ضمن 10 لاعبين لكرة القدم اختارهم بعناية مندوب أحد الأندية الخاصة بالقاهرة للعب بفريق النادى تحت 16 عاما؛ إلا أن الظروف المادية والمبلغ المطلوب من قبل النادى حال دون تحقيق حلمه.
فى الدورى المقام بين مراكز الشباب المختلفة بالشرقية، تمكن فريق «الشيخ عيد» لكرة القدم من حصد بطولتى 2009 و2010، عندما تتويجه محليا، وهو ما كشفه محمد فايز، 18 عاما، الذى يلعب فى مركز «المساك» بفريق مركز شباب فاقوس، لكن معاناة لأزمته فى حياته الكروية، وهى أنه لا يستطيع أن يحظى بعضوية عضوية مركز الشباب الذى يلعب لصالحه بسبب جنسيته الفلسطينية.
ديوان المظالم و«البكارج»
فى ديوان «محمد سالم» كان الجمع من أبناء عائلة «الشيخ عيد» يجلسون على الحصر البلاستيكية المفروشة بعناية لتشكل مسارات محددة للمشى، فيما كانت الفراغات مفروشة بالرمال، عشرات الرجال الذين يرتدون الجلابيب والشباب، الذين تتنوع ملابسهم يجلسون سويا تستند ظهورهم إلى وسادات حمراء اللون، وفى المنتصف بالضبط من الجلسة كانت الأدخنة البخارية ترتفع من «بكارج» القهوة التى وضعت على الفحم المشتعل، يعتبر أبناء العائلة أن تلك الأجواء واحدة من العادات التراثية، التى لا تزال تربطهم بعاداتهم وتراثهم الفلسطينى، والتى اندثر منها الكثير بفعل الزمن، ونظرا لأن كثيرين من الأجيال الجديدة التى تحمل جنسية الأجداد، ولدت فى مصر.
يقول محمد سالم صاحب الديوان، إن كثيرا من أدوات صناعة القهوة التى كانوا يستخدمونها اختفت، إذ إنهم كانوا يحرصون على شراء القهوة العربية فى صورتها الأولى «خضراء»، قبل أن يقوم بطحنها أثناء جلستهم، ووضعها فى «البكارج»، لكن ذلك اندثر لصالح شراء البن جاهزا، ومن النوع الذى تصنع بها القهوة على الطريقة التركية.
بكارج القهوة تنتشر فى دواوين الأسرة
ويتابع الحاج محمد حديثه ل«الشروق»، قائلا: فى هذا الديوان يتم حل 80% تقريبا من مشاكل القرية بشكل عرفى وبشكل مستمر تكون هذه القاعة ممتلئة عن آخرها بالحضور لحل مشاجرة أو خلاف على أرض، ويضيف إن موهبة القضاء العرفى توارثها أبناء «الشيخ عيد» عن الأجداد، وباتوا معروفين بذلك فى أنحاء «عرب درويش» والقرى المجاورة.
لا تقتصر جلسات التقاضى على أبناء العائلة من الفلسطينيين بل إن الديوان بات ملاذا للتقاضى من قبل المصريين المقيمين بالقرية أيضا، بحسب قول الحاج محمد، ويضيف إن أهل البلد يأمنوا ذمته إلى الحد الذى جعل لديه مئات من إيصالات الأمانة بمبالغ مالية مختلفة، والتى يتم تحريرها بين طرفى النزاع كنوع من الضمانة لعدم تجدد الخلاف، أو التى تكون غرامة يدفعها المعتدى الذى يحدده القضاة العرفيون.
أخرج الرجل من جيب جلبابه، دفتر بنى اللون يبدو مهترئا بسبب كثرة ما دون فيه من كلمات، وقلّب صفحاته التى كُتب بها اسماء عدد من الأشخاص ونوع المشكلة، وإذا ماكانت هناك إصابات ناجمة عنها، إذ بدا أن عدد «الغرز».
الجنسية والإقامة
فى أقصى يمين الديوان، دار حديث غاضب بين رجل اربعينى، ودليلنا يوسف أبوكاشف، وبينما انطلق الرجل فى غضب، سائلا: «إحنا عايزين نعرف ليه مش عايزين يدونا الجنسية المصرية؟.. إحنا اتولدنا هنا وما نعرفش غيرها.. لا علاج ولامعاش ولا كأننا عايشين».
بهدوء حاول أبوكاشف شرح أبعاد الموقف فى لهجة الخبير إلى مواطنه الغاضب، فقال: «المشكلة مع الفسلطينيين ليست لكن السماح لهم بالتجنس يقتل بعد سنوات حق العودة المشروع للأراضى المحتلة التى اغتصبتها إسرائيل».
لم يستطع أبوكاشف أن يكمل كلامه وبمجرد نطقه لكلمة «حق العودة» بلغ الغضب مداه بمحاوره، وقال «مفيش لا حق عودة ولا.. ولا حد بيشيل هم حد والقضية من ستين سنة من غير حل.. يبقا نعيش إزاى».
اللاءات المتواصلة من الفلسطينى الغاضب لم تزحزح أبوكاشف عن هدوئه الذى طالما لازمه، فعاد للقول: يعنى إنت مشكلتك مع الجنسية الفلسطينية ولا إنت محتاج المزايا اللى ممكن تحصل عليها من الجنسية المصرية»، وتابع: «كلنا بنعانى فى العلاج والتعليم وغيره لكن إحنا محتاجين نتعامل زى المصريين ومش لازم الجنسية»، حينها بدا الرجل الغاضب أكثر هدوءا وانخرط، وكأنما يحدث نفسه «والله إحنا بلادنا عزيزة علينا بس العذاب اللى بنشوفه لما نمرض ولا ما نعرفش نشتغل هو اللى يخرج الواحد من شعوره».
تغلب البساطة على معظم بيوت القرية المبنية بالبلوط
يحتاج الفلسطينى المقيم فى مصر إلى تجديد تصريح الإقامة بشكل سنوى ويتكلف ذلك 25 جنيها، ويمكن له الحصول على إقامة ثلاث سنوات بنفس المبلغ بشرط أن يكون مقيما لمدة عشر سنوات متواصلة لم يغادر خلالها البلاد، فيما يتم تجديد جواز السفر كل خمس سنوات بنحو 150 جنيها، وهو الأمر الذى يمثل عبئا على الأسر الكبيرة، إذ يبلغ متوسط عدد الأسرة الوحدة فى «عرب درويش» نحو 7 أفراد، فضلا على الحاجة إلى استخراج ترخيص عمل بالنسبة للبالغين بشكل سنوى يتكلف نحو 50 جنيها شاملة الدمغات والمصروفات والصور الفوتوغرافية.
وبسبب طول الإقامة تداخلت علاقات المصاهرة والنسب، وتزوج كثير من الفلسطينيين من مصريات.
فى عام 2004 صدر القانون رقم 154، متضمنا تعديل قانون الجنسية المصرية 26 لسنة 1975، للقضاء على التمييز بين المصرى والمصرية فى حق منح الجنسية المصرية لأبنائهما، وليقرر المساواة القانونية بين من ولد لأب مصرى أو لأم مصرية فى اكتساب الجنسية، فيما نصت المادة الثانية من قانون الجنسية بعد تعديلها على أن «يكون مصريا: من ولد لأب مصرى، أو لأم مصرية». وطبقا لهذا النص يكون مصريا من ولد لأم مصرية، سواء ولد فى مصر أو فى الخارج وبصرف النظر عن حالة الأب.
وعلى الرغم من تعديلات القانون فى 2004، فإن أبناء الفلسطينيين المتزوجين من مصريات، كانوا يضطرون إلى إقامة دعاوى قانونية أمام محكمة القضاء الإدارى لإلزام وزراة الداخلية بإصدار موافقة على منحهم الجنسية خاصة أن الرفض كان بحجة الحفاظ على الهوية الفلسطينية.
محمد عطوة حسن، من مواليد عام 1973 لأب فلسطينى وأم مصرية، حصل على ليسانس أصول الدين والدعوة الإسلامية من جامعة الأزهر، وعقب تخرجه فى منتصف التسعينيات انخرط زملائه فى العمل كمدرسين فى المعاهد الأزهرية، لكنه لم يتمكن من اللحاق بأبناء دفعته بسبب جنسيته.
ظل محمد يكابد عناء العمل بعيدا عن مجال دراسته، فانتقل بين المهن المختلفة كأبناء عائلته من بيع الخضراوات إلى وظيفة مؤقتة فى محال البقالة والألبان وغيرها، فى عام 2004، وعندما لاحت فى الأفق فرصة أمام للحصول على الجنسية المصرية بهدف التقدم للعمل فى وظيفة مدرس بالأزهر، صدم الشاب الذى كان يبلغ عمره ثلاثين عاما وقت صدور القانون.
لم يفقد ابن عائلة «الشيخ عيد» الأمل، ودون كلل أو ملل بحث عن محامٍ لإقامة دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى تُلزم وزارة الداخلية بمنحه الجنسية، 7 سنوات كاملة استمرت المعاناة فى ساحات التقاضى، وفى عام 2012 تمكن محمد حسن عطوة من أن يمسك بيده للمرة الأولى بطاقة رقم قومى تمنحه الجنسية المصرية.
انطلق الشاب فرحا يحمل هويته الجديدة وأوراق تخرجه للتقدم للوظيفة التى طالما حلم بها فى أحد المعاهد الأزهرية، لكن صدمة أخرى واجهته إذ فوجئ الشاب بأنه بلغ الأربعين ولم يعد من الممكن أن يتم توظيفه حتى ولو كان مصريا.
فى أحد محال بيع الملابس بمنطقة العتبة يعمل محمد حاليا، بمرتب لا يتجاوز الألف جنيه دون عقد أو تأمين، فيما يصرف جزء من راتبه على الإقامة فى القاهرة والسفر أسبوعيا إلى زوجته وأولاده فى قرية «عرب درويش».
أعمال مؤقتة
فى محاولات البحث عن الرزق فى الأرض الواسعة، تُضيق اللوائح الفرص على الفلسطينيين، إذ إن تصريح السفر صالح لمدة 6 شهور فقط، وبحسب عدد من أبناء عائلة «الشيخ عيد» فإن كثيرا من فرص العمل للخارج تم فقدانها بسبب ضيق المدة، إذ لا تقبل الشركات شخصا، لمدة 6 شهور فقط ثم يعود لتجديد تصريحه، وعلى جهة العمل أن تنتظره، خاصة أن تجاوز مدة تصريح السفر بيوم واحد يعنى أن من هو خارج مصر لن يتمكن من دخولها.
ويعمل رجال «عرب درويش» فى نشاط بيع وشراء الخضراوات، كما هو الحال لدى معظم القرية الملاصقة للأراضى الزراعية، فيما لا يمكنهم تملك الأراضى باعتبارهم أجانب.
مرضى فى العراء
فى داخل منزلها المتواضع جلست الحاجة فرحانة سليمان، 55 عاما، بوجه لا يقوى على الابتسامة، فالسيدة التى تعانى من كسر فى الفخذ تغالب ألمها بالمسكنات التى تكلف أسرتها نقودا لا قبل لهم بها.
السيدة الفلسطينية المولودة فى مصر، حالها كغيرها من أبناء «التغريبة» الذين لا يمكنهم الدخول إلى مستشفيات التأمين الصحى لأنهم غير خاضعين له.
تبدو الحالة السابقة أفضل حالا من مواطنتها وجارتها فاطمة سليمان، التى تعانى من مرض «الكبد» منذ سنتين، وتتلقى العلاج على نفقة أسرتها أيضا وسط ظروف معيشية صعبة للغاية.
وعلى الرغم من أن مستشفى فلسطين بمصر الجديدة، تابع إداريا للسلطة الوطنية الفلسطينية، إلا أنه يعالج فقط الفلسطينيين الخاضعين لنظام التأمين الصحى، والذى يسرى على المقيمين فى الأرض المحتلة كل بحسب نظام عمله وتعالج بقية المرضى أيا كانت جنسيتهم بطريقة استثمارية خاصة بحيث يتكلف المريض الإنفاق على علاجه بالكامل.
اللافت أن المرضى الفلسطينيين المقيمين فى «عرب درويش» أوغيرها من المدن، لا تشملهم القرارات الوزارية بالعلاج على نفقة الدولة، والتى تصدرها وزارة الصحة المصرية، على الرغم من أنها كانت باب أمل لكثير من المرضى؛ فإنها توقفت قبل نحو 5 سنوات، بحسب ما قال ل«الشروق» عدد من أهالى المرضى.
مقابر
بالنسبة للقادمين من خارج قرية «عرب درويش» فإن مقابر فلسطينيى القرية تقع فى منطقة مرتفعة فى الجانب الأيسر للطريق، ويحرص أبناء عائلة «الشيخ عيد» على أن تكون لعائلتهم مقابر خاصة دُفن فيها الجيل الأول من الأجداد، الذين ولدوا فى «بئر السبع» وتوفوا فى مصر، وتمكن إبراهيم حميد، أحد أبناء العائلة، والذى يشغل موقعا تنظيميا فى حركة فتح، من الحصول على موافقة السلطة الوطنية على تمويل بناء مقابر جديدة، وهو ما تمت كتابته على عبر لافتتين، مسجل عليهما السلطة الوطنية الفلسطينية، وفى عهد الرئيس محمود عباس أبومازن، تم تجديد مقابر الجالية الفلسطينية فى قرية «عرب درويش»، والتى يبلغ عددها 47 عينا لمقبرة، موزعة بين مكانين.
طريق العودة
فى طريق العودة إلى القاهرة، عاد الدليلان إبراهيم حميد ويوسف أبوكاشف للحوار بشأن المستقبل، وفيما بدأ الليل فى نسج خيوطه، اقترح إبراهيم طريقا مختصرا تجنبا للزحام، وبعد عدد من نصائحه بالاتجاه يمينا ثم يسارا والدوران للخلف اكتشفنا أننا قد نكون سلكنا طريقا غير صحيح، وهنا تدخل أبوكاشف الذى سخر من محاولات صديقه غير المجدية، وذكره ببعض أبيات للشاعر الفلسطينى محمود درويش، والتى بدت معبرة عن حال الفلسطينيين فى التغريبة أكثر من حالنا بالطريق، وتمتم يقول:
يجبُ الذهابُ إلى اليسارْ
يجبُ التوغُّلُ فى اليمين
يجبُ التمترسُ فى الوسطْ
يجبُ الدفاعُ عن الغلطْ
يجبُ التشكُك بالمسارْ
يجبُ الخروج من اليقينْ
يجبُ انهيارُ الأنظمةْ
يجب انتظارُ المحكمةْ
.. وأنا أُحبك سوف أحتاج الحقيقةَ عندما أَحتاج تصليح
الخرائط والخططْ
أَحتاجُ ما يجبُ
يجبُ الذى يجبُ
أَدعو لأندلسٍ
إن حُوصرتْ حلَبُ

قبل النشر
بينما كان ذلك التقرير فى طريقه للنشر، لفظت، فاطمة جبر سالم، 65 عاما، أنفاسها الأخيرة، بعد معاناة قصيرة لم تتجاوز السنة مع «سرطان القولون»، السيدة الفلسطينية الراحلة كانت كمثيلاتها من المرضى الذين ينظر إليه باعتبارهم «أجانب»، ولا يستطيعون دخول المستشفيات الأميرية، وظلت تتردد بشكل دائم على جمعية علاجية خيرية بمدينة فاقوس توفر لها بعض العلاج الذى لا يتعدى المسكنات.
السيدة التى رحلت فى صمت بعد معاناة من المرض وعدم وجود العلاج، تمثل ناقوس خطر بشأن غيرها من المرضى الفلسطينيين، وصحيح أن المرض لا يُفرق فى الجنسية بين شخص وآخر؛ إلا أن الحرمان من العلاج حتى وإن كان بدائيا ومحدودا، يمثل وجعا يزيد من ألم التغريبة التى يعانى منها الفلسطينيون.
حكايتهم مع اغتيال يوسف السباعى
ربما لا يعرف كثير من المصريين على وجه الدقة، التاريخ الذى تمت فيه عملية اغتيال الأديب ووزير الثقافة الأسبق، يوسف السباعى، لكن فلسطينيى «عرب درويش» وغيرهم من المُهجرين فى مصر يعرفون جيدا أنه وفى عام 1978، وبينما كان الرئيس الراحل أنور السادات يسلك مساره للتفاوض والسلام مع إسرائيل، نفذ مسلحون ينتمون إلى جماعة فلسطينية تسمى «أبونضال» عملية اغتيال السباعى ردا على تأييده للسلام مع إسرائيل، وذلك لدى تواجد الوزير المصرى الراحل فى العاصمة القبرصية نيقوسيا، أثناء مشاركته فى مؤتمر التضامن الأفروآسيوى السادس، وبصفته أمين عام منظمة التضامن الأفريقى الآسيوى.
وصحيح أن المسافة بين «عرب درويش» و«نيقوسيا» تتجاوز مئات الكيلو مترات وتحتاج إلى العبور بين قارتين، لكن صدى صوت الرصاص الذى أطلق فى قبرص تردد صداه فى كل بيت لفلسطينى فى مصر، فأقدمت الحكومة حينها على وقف جميع المعاشات التى يحصل عليها الفلسطينيون، وكذلك تم منع التموين «الزيت والسكر والأرز» عنهم، فيما تم إلزام الطلبة الفلسطينيين بالجامعات الحكومية والمدارس الأميرية بدفع المصروفات مثل الطلبة الأجانب بالعملة الصعبة، على الرغم من استثنائهم من ذلك خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
يقول عدد من أبناء العائلات الفلسطينية إن تلك «العقوبات» التى تم تنفيذها قبل 30 سنة لا تزال سارية حتى اللحظة، ولا يجد الأهالى سوى المدارس الأزهرية لإلحاق أبنائهم بها، فيما يتعبر التخصص الأدبى والنظرى هو الحل الوحيد أمامهم نظرا لأن الكليات العملية فى جامعة الأزهر تتطلب مصروفات تمثل عبئا بالنسبة لهم.
يقول غازى محمد سالم، إنه كان الأول على دفعته فى «معهد عرب درويش» الثانوى الأزهرى فى عام 1998، وبينما كان مجموعة يؤهله للالتحاق بكلية الهندسة بجامعة الأزهر، إلا أنه المصروفات التى لا قبل لعائلته بها منعته من ذلك، فالتحق بكلية الدراسات الإسلامية، وتخرج بتقدير «جيد».
نجح غازى فى الحصول على عقد عمل مؤقت للعمل كمدرس للغة العربية للمرحلة الابتدائية فى عام 2004، لكن شكوى ضده لكونه فلسطينيا، ويحصل على فرصة عمل لمصرى حالت دون استكماله لعقده، لجأ الشاب إلى مديرية التربية والتعليم فى فاقوس، وحصل على موافقة وكيل الوزارة لاستكمال عمله، وعقب انتهاء العقد لم يتمكن من إبرام عقد جديد حتى اللحظة.
يشكو غازى من رفض الشركات الخاصة تشغيلهم حتى بدون عقود، وبينما يرفض البعض بأسلوب معقول يتعلق بالجنسية الأجنبية، يرفض بعضهم ويعلق فى جدية «هو إحنا لاقيين شغل للمصريين لما الفلسطينيين كمان يزاحمونا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.