ماذا بقى من تراث ثورة يوليو حتى يدعى الإعلام الرسمى أن النظام الحالى هو نظام «يوليوى» يقف على تخوم منجزات الثورة ينافح عن منجزاتها ضد المتربصين بها؟ من أسف أن المتمسحين بالثورة يخونونها طوال الليل، ثم يتصنعون حديثا دافئا فى صباح 23 يوليو من كل عام، يفككون كل ما تركته لصالح هذا الشعب ويبيعونه بأقل القليل، وأحيانا يمنحونه لمن قامت الثورة ضدهم. يملأون الدنيا طنينا عن العدل الاجتماعى، ثم يكشرون عن أنياب سياسات اقتصاد السوق. يتحدثون عن التنمية والمشروعات القومية بإلحاح شديد، بينما المواطن العادى يتعمق شعوره بالاقتلاع يوما بعد يوم، لأننا ببساطة صرنا نحيا فى وطن بلا سقف يحميه من صقيع الشتاء، أو هجير الصيف الموحش. هو وطن فقد عقله فضل الطريق، وكانت بداية الانهيار عندما أنشأنا أكثر من جدار للفصل العنصرى بين من كان يفترض أنهم أبناء وطن واحد. فى التعليم، مثلا، أقمنا الأسوار العالية بين أبناء البسطاء، وأبناء الأثرياء الجدد، وأصبح لدينا نوعان من التعليم، كلاهما يملأ شبابنا بمنظومة قيم مختلفة عن الأخرى، وليس أخطر من ذلك لكى تتآكل قيمة المواطنة، وتتحلل مثل جثة ألقيت فى الصحراء. ومن قبيل التكرار الممل أن نتحدث عما آلت إليه الصناعة المصرية التى انطلقت بالتزامن مع كوريا واليابان، وننظر أين نقف، وإلى أين وصل هؤلاء. وبعد أن كانت الأرض لمن يزرعها، صارت الأرض لمن يملك أدوات التعدى والاستيلاء عليها، ونمت مرة أخرى طبقة جديدة من الإقطاع، لكنها أكثر شراسة وأشد فتكا من طبقة الإقطاعيين الكلاسيكيين، على الأقل كان الإقطاعيون القدماء يزرعون وينتجون. غير أن أسوأ ما ابتلينا بها هو ابتذال فكرة المشروع القومى، حتى صار الحديث عنه مضحكا ومبكيا فى آنٍ، إذ إن بعضهم لا يدرك الفرق بينه وبين مشروع للصرف الصحى، أو إقامة مساكن تنهار بعد قليل من إنشائها. مع الثورة كان لدينا مشروع قومى واحد، التف حوله الجميع، وتجلى فى عديد من المسارات، فكان الإصلاح الزراعى والتصنيع والارتقاء بمستوى التعليم والسد العالى والنهضة الفكرية والثقافية التى لانزال نعيش على منجزاتها حتى اليوم. أما الآن فصار افتتاح منفذ لبيع اللحوم المستوردة مشروعا قوميا، والفارق بين ما كان وما يجرى الآن أننا فقدنا الإرادة والقدرة على الحلم، لذلك فالمحصلة كما ترى، وطن يأكل بعضه، وغبار كثيف يحجب المستقبل عن أبنائه. ورغم كل ذلك لايزال هؤلاء الذين أوصلونا إلى هذا الحضيض مصرين على أنهم امتداد الثورة وحماتها، دون أن تهتز لهم شعرة وهم يتعقبون كل ما يحمل اسم زعيم الثورة الخالد لمحوه، ستاد ناصر أصبح ستاد القاهرة، بحيرة ناصر صارت بحيرة السد، والغريب أنهم كلما طمسوا اسمه على منشأة أو يافطة ينبت له ألف اسم فى القلوب والعقول التى لاتزال تحلم بطلوع الفجر.