• السينما الأمريكية مازالت تواصل لعبة الخداع بتقديم أفلام تؤكد أن أبطالها فقط هم من ينقذون تراث البشرية • كلونى ورجاله ينفذون رغبة روزفلت بإنقاذ الآثار التى نهبها النازيون برؤية سطحية كثيرا ما لعبت السينما الامريكية على وتر ان الولاياتالمتحدة هى البطل الاوحد والنموذجى كحماة للحضارة وفى انقاذ العالم والانسانية من مخاطر جمة، سياسية كانت ام اجتماعية ام بيئية، وللحق كانت الحرفية الفنية التى تخرج عليها صورة الافلام تصل بنا فى كثير من الاحيان إلى حد الاقناع بالرسالة الانسانية لامريكا. لكن فى هذا الفيلم لم تستطع هوليوود تجميل وجه امريكا بنفس الدرجة، ولى حقائق مشكوك فيها، فهى فى فيلم «رجال الآثار» الذى عرضته شاشة مهرجان برلين السينمائى الرابع والستين خارج المسابقة الرسمية بطولة واخراج جورج كلونى، تحاول ان تؤكد للعالم انها تخاف على الكنوز الاثرية والفنية، وانها وراء عملية عودتها إلى اصحابها من يد المغتصبين. احداث العمل تدور حول فريق من الخبراء العسكريين والفنيين يكلف بمهمة فى أوروبا قرب نهاية الحرب العالمية الثانية لإنقاذ تحف وروائع فنية نادرة سقطت فى يد النازيين واستولوا عليها تلبية لرغبة هتلر. والسؤال هو إلى أى مدى يمكن تصديق ذلك، ومازالت يد امريكا ملوثة بما حدث اثناء حربها فى العراق وهو ما كشف عنه فيلم «المنطقة الخضراء» فى عمل استثنائى. فالجرائم التى ارتكبت فى بغداد وغيرها من المدن العراقية نموذج صارخ على احتقارهم للتراث الفنى والثقافى والإنسانى حيث هدموه وتركوه عرضة لأكبر عملية سرقة ونهب فى التاريخ المعاصر، بجانب ما دمر منه، إذن مسألة انهم حماة الحضارة والمدنية الحديثة من الدمار على أيدى النازيين أعداء الإنسانية والفن، هى ربما تكون مسألة مشكوك فيها بنسبة ما، حتى مع نبل الهدف والصورة التى سعت اليها اسرة الفيلم. واذا كانت هوليوود قد استعانت بنجوم محبوبين لهم بريقم مثل كلونى ومات ديمون وبيل موراى وجون دوجاردان وكيت بلانشيت لتمرير هذا الاعتقاد، واذا كان ايضا الجمهور تعاطف مع الموضوع كفكرة، فإن الامر قد يحتاج إلى مراجعة كل القصص السينمائية التى طرحتها امريكا عن الحرب العالمية والتى بدت فيها بمثابة حليف الانسانية والبطل الاوحد، فالواقع ان هوليوود لم تكن يدها نظيفة من مغزى تبنيها لمثل هذه القضايا وكثيرا ما تم الكشف عن تعاونها مع المخابرات الامريكية فى عمليات تضليل الرأى العام الامريكى نفسه وكذلك عمليات تجسس كبرى بل ونقل اسلحة إلى اماكن، حولتها لبؤر صراع وقد أكدت تريشيا جنكيز، مؤلفة كتاب «دور السى آى أيه فى هوليوود»، أن تدخل الوكالة فى صناعة الأفلام وصل لذروته خلال الحرب الباردة، حيث كان الهدف؛ صياغة السياسة الخارجية الأمريكية بشكل يستطيع كسب القلوب والعقول فى الخارج، من خلال مركز أبحاث لمكافحة الأيديولوجية الشيوعية تابع للوكالة الاستخباراتية، مهمته التفاوض من اجل شراء حقوق نصوص الروايات وتحويلها إلى أفلام للترويج للسياسة الأمريكية، وتعزيز صورة الحياة الأمريكية فى العالم. بدون شك كان للفيلم صداه الخاص فى ألمانيا التى شهدت العام الماضى العثور على أكثر من 1400 عمل فنى فى شقة شخص مسن منعزل فى ميونيخ وساد اعتقاد بأن النازيين نهبوا أغلب هذه الأعمال حسبما نشرت رويترز، وهى القصة التى ظل يرددها اسرة ومخرج العمل الفنى. وقال كلونى، فى مؤتمر صحفى: إن الفيلم امتزج بالواقع فى ألمانيا، فى إشارة إلى العثور على عدد ضخم من الأعمال الفنية فى شقة فى ميونيخ العام الماضى. وأضاف «هذه قصة ستظل بارزة، لأنه لا يزال يوجد عدد ضخم من الأعمال الفنية المفقودة سيتم اكتشافها لاحقا.. إنه مجرد كشف واحد». ونعود إلى الفيلم الذى يصور من خلال سيناريو افتقد كثيرا من عناصر التشويق عبر معسكرات حربية كيف نجح «الحلفاء» فى إنقاذ واستعادة آلاف القطع الفنية النادرة (من اللوحات والتماثيل وحتى مقتنيات الذهب الثمينة» التى كان الألمان النازيون قاموا ب«سرقتها» ودفنها فى عدد من المناجم فى ألمانيا والنمسا تمهيدا لوضعها فى متحف، ولكن عندما بدأت هزيمة النازيين تلوح فى الأفق فى أوائل عام 1944، كان الألمان يعتزمون تدمير وحرق هذه التحف لحرمان الحلفاء منها بل إنهم كما صور الفيلم قاموا فعلا بحرق الكثير منها فى مشهد مؤثر للغاية تم تصويره بشكل دراماتيكى انتزع اهات الجمهور. كانت البداية حسبما صور الفيلم المقتبس عن كتاب يحمل نفس الاسم للمؤرخ روبرت إدسيل ان الرئيس الأمريكى روزفلت اصدر أمرا بالبحث عن التحف الفنية «المنهوبة» وانقاذها، فتشكل فريق من المؤرخين وخبراء الآثار، معظم أفراده من الأمريكيين، مع الاستعانة ببعض البريطانيين والفرنسيين وراء خطوط الألمان، لاكتشاف الكنوز الفنية المدفونة وانقاذها، وتمر الاحداث فى غياب حبكة درامية دون تطور سردى جذاب ورؤى فكرية عميقة كتلك التى عهدناها فى افلام سابقة من نوع الاثارة الحربية. اظهر الفيلم جانبا من الرؤية تخص مهمة الامريكان دون التطرق إلى تفاصيل حقيقية مبررة لفعلة النازيين الالمان من وراء سرقة الكنوز التى لا تقدر بثمن من المتحف، بجانب المجموعات الخاصة التى كان يقتنيها اثرياء اليهود وهدفهم من وراء ذلك، حيث لم نر سوى مشهد وحيد لقائد المانى دخل متحف بباريس يخدع موظفته الفرنسية «كيت بلانشيت» التى تمقته ثم نفاجأ بسرقته تماما. الاغرب من ذلك اننا نفاجأ بأحد اعضاء الفريق الامريكى خبير الاثار «مات ديمون» وهو يعيد احدى اللوحات إلى منزل احدى تلك الاسر ويعلقها فى مكانها على الحائط وقد ارتبط عاطفيا بالموظفة الفرنسية بعد ان منحته قائمة بكل اللوحات المسروقة. فى النهاية يبقى المستفيد الاكبر من ذلك الفيلم هو النجم جورج كلونى الذى اراد ان يوصل للعالم انه سيبقى نصير القضايا الانسانية، وبالقطع عمل فيلم يسعى خلاله لعودة كنوز اثرية منهوبة، كما انه تجربة جديدة له كمخرج، حتى وان لم تكن مفرداتها الفنية بنفس قوة تجارب سابقة. اما امريكا نفسها فأعتقد انها ستواصل لعبة الخداع باعادة تقديم مشاريع سينمائية تؤكد انها نصيرة الحضارة رغم أنف التاريخ حتى وإن ضلت طريق مشروعيتها. على جانب اخر يبقى هناك مكسب اخر لمهرجان برلين الذى عرض ذلك الفيلم، فى اطار اختيارات ذكية لمجموعة من الافلام المثيرة للجدل سواء عبر مضمونها الفكرى أو الفنى وهو اهم ما يميز دورة المهرجان هذا العام.