عزيزى الأستاذ عماد الدين حسين اسمح لى فى مناسبة عيد الميلاد الخامس لجريدة «الشروق» أن أهنئك وكل الأصدقاء والزملاء العاملين فيها على جهد متميز فى ظروف مرتبكة، لأن ذلك اختبار حقيقى لأى فريق عمل على ساحة الخدمة العامة، فضلا على أن يكون هذا الفريق مسئولا عن جريدة فى صميم عملها أن تتابع وتلاحق مشهدا سريع الحركة، شديد الارتباك. والواقع أن هذا الجهد المتميز حقق ل«الشروق» شرطا مهما من شروط النجاح، وأعنى أن تتمكن أى جريدة أن تفسح لنفسها موقعا وحيزا بارزا لها، فى محيط مزدحم بالسابق واللاحق لأن ذلك انجاز مؤسسى مشهود. يظهر أن «الشروق» كانت موعودة بالقلق، أو على موعد معه، وإذا كان عمرها خمس سنوات، فإنه يكفيك أن تنظر إلى ما كان وجرى فى هذه السنوات الخمس. سنة ظهور «الشروق» كان نظام «مبارك» يترنح آيلا للسقوط. منذ ذلك الوقت قبل خمس سنوات وحتى هذه اللحظة، توالت أحداث تكفى لملء خمسين سنة! طوال هذا السنوات الخمس سادت «حالة ثورة» مازالت مستمرة حتى هذه اللحظة وقد شهدت ذروتين، كل منهما فوهة بركان متوهج نارا ونورا فى نفس الوقت: 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وبين الذروتين مرتفعات ومنخفضات، تتصاعد نحو الأعالى يوما، وتنحدر نازلة على السفوح مع يوم آخر. ثلاثة رؤساء للجمهورية فى قصر الاتحادية هما: «حسنى مبارك»، و«محمد مرسى»، و«عدلى منصور» (وإن كان هذا الأخير مظلوما فى السياق الذى وضع فيه) 3 دساتير أحدها وراء الآخر: دستور 71 معدلا بواسطة «السادات» سنة 1980 مرة وبواسطة «مبارك» 1997 مرة ثانية وبواسطة المجلس العسكرى سنة 2011 مرة ثالثة. ثم دستور الإخوان سنة 2012 وأخيرا هذا الدستور الجديد سنة 2013. خمسة رؤساء وزارات: الفريق «أحمد شفيق» الدكتور «عصام شرف» الدكتور «كمال الجنزورى» الدكتور «هشام قنديل» والدكتور «حازم الببلاوى» هل تريد أن أعد لك بقية ما توالى على «مصر» طوال هذه السنوات الخمس من القلق القائمة طويلة وبنودها فى الذاكرة وتفاعلاتها حصار من كل ناحية من المفروض أن أهنئك على خمس سنوات من القلق، لأن أحوال القلق عادة مواسم (أو هل أقول موالد) للصحف بلا حدود فليس أسوأ بالنسبة لها من أن يكون كل شىء هادئا على كل الميادين شرقية وغربية، فالهدوء بالنسبة للصحفى بطالة، والركود للصحف بوار. يظهر أن الموسم (المولد) لم يكن بالضبط للصحافة المكتوبة، وإنما كان وعده صادقا مع الفضائيات وعدساتها المصوبة، كأنها المدافع مستعدة للانطلاق والإطلاق بلمسة على زناد، فهى على الهواء طول الوقت: «مباشرة» و«الآن» و«قبل قليل»! وتتفق معى فيما أحسب على أن الصحافة الورقية المكتوبة فى العالم كانت من الأصل فى مشكلة، لأن حركة التقدم فى وسائل الاتصال أصابتها بمستجدات لم يكن فى مقدور الكلمة المطبوعة أن تتعامل معها لكن الوسائل الجديدة استطاعت أن تصل إلى الناس حتى فى غرف نومهم، تعرض أمامهم وهم مازالوا فى الفراش كل ما يجرى فى أوطانهم وفى عالمهم: صورة ولونا وصوتا وحركة. wvv ثم تكفلت المجالات الإلكترونية خصوصا الإنترنت بالباقى، فلم يعد الناس يشاهدون ويتابعون الأحداث، وإنما أصبحوا يعيشون فيها ومعها، فى حين أن الصحافة الورقية لها حدود أولها: مواعيد للطبع لا يمكن تجاوزها، وكل المواعيد قبل منتصف الليل، بينما الفضائيات مستمرة فى التغطية حتى الفجر، ثم ان الإنترنت لا يعرف النوم لا بالليل ولا بالنهار!. والنتيجة أن الصحافة الورقية انحصرت، وانحصارها أمامنا بالأرقام، وعلى سبيل المثال وأنت تعرف فإن «الطاقة القرائية» أى مجموع عدد المشترين للصحف والمجلات صباح كل يوم فى «مصر» كان سنة تركت رئاسة تحرير «الأهرام» سنة 1974 عند مستوى 3 ملايين مشتر للصحف فى اليوم، على تعداد سكان يصل إلى 30 مليونا وقتها واليوم فإن «الطاقة القرائية» للصحف لا تزيد كثيرا على مليون ونصف المليون لكل الصحف، إلى جانب أن عدد السكان زاد بنسبة ثلاثة أمثال، أى تسعين مليونا من البشر تقريبا، فضلا على ذلك فإن عدد القراء الذين يشترون أكثر من صحيفة نزل إلى الربع، كما أن عدد قراء النسخة الواحدة تقلص من خمسة قراء إلى ثلاثة فى المتوسط!. والمزعج لأى صحفى فى مصر هو أن «النزول» تواصل رغم ظرف ملائم للصحافة بالكامل، فهو كما اتفقنا موسم قلق فى الحاضر وعلى المستقبل، وهذه حالة مثالية للاهتمام بالشأن العام تستدعى المتابعة بشوق وإلحاح. ورغم ذلك فإن «الطاقة القرائية» فى «مصر» تتدحرج على منحدر! اين الخطأ إذن؟! وكيف وقع؟! ظنى أننى استطيع المشاركة فى البحث عن جواب، لأنى أقارب الأزمة بلا هوى، فاهتمامى بالمهنة يجىء من خارج الإطار بحقائق الأشياء أى أنه من بعيد، يثيره الولاء، ولا تشوبه المصلحة! ولعلى بسبب هذا التواجد خارج الإطار لا أقطع، وإنما أرجح بافتراض أستعمل فيه «ربما»، بدلا من التأكيد ب«إن». مرة ثانية أو ثالثة.. أين الخطأ إذن؟! ربما أن الصحافة الورقية فى «مصر» لم تستطع أن تفعل ما فعلته صحف أمريكية («نيويورك تايمز» مثلا) حين قدرت مبكرا ان «الخبر» هو المادة الأولية فى الصحيفة على تنوع مجالاته، ثم قدرت أن صحافة التليفزيون تستطيع أن تغطى شكل الخبر وسطحه بالصورة واللون والصوت والحركة لكنها لا تستطيع أن تنفذ إلى «عمقه»، لأن الكاميرا لا تستطيع أن تغوص فى هذا العمق، والقلم يستطيع. (هو العمق إذن!). وربما أنه وبالتوازن فإن عالم الاتصال الإلكترونى والخبر عليه برق وومض «مباشر» و«الآن» و«قبل قليل»، لا يتيح الفرصة اللازمة للدقة والتدقيق، فى حين أن الصحيفة تملك الوقت نسبيا، خصوصا إذا دعمته الكفاءة، وكذلك يمكن أن يجىء الخبر فى الصحيفة كاملا مستوفيا متوافقا مع درجة من المصداقية، لا تتوافر لغيرها. (هى الدقة بعد العمق!). هناك ربما أن ظروفا قديمة وجديدة خلطت الأوراق، ذلك أن السباق على الأخبار أصبح كاسحا، والطلب زاد على المعروض منها، ثم إن تأثير «الصنعة» نزل على توازن الخبر، فإذا الوقائع تتوه فى كثرة التكهنات، وتشرد مع سحب الشائعات، وذلك يوقع الصحافة فى المحظور الذى وصفه عميد «هارفارد» الشهير الدكتور «جراهام أليسون»، وهو يتحدث عن مستوى ما يراه من رسائل الدكتوراه الجامعية، وكان قوله: «المشكلة أن ما هو جديد فى هذه الرسائل ليس صحيحا، وما هو صحيح فيها ليس جديدا!». (وهنا مأزق المصداقية فيما ينشر، وللإنصاف فتلك ليست مشكلة الصحافة المصرية وحدها، لكنها مسئولية الإعلام كله وفى العالم كما هو فى «مصر»). هناك «ربما» أخيرة وهى واقع يمكن الاعتراف به دون حاجة للاعتذار عنه، مؤداه أن الفضائيات استطاعت أن تجذب معظم العناصر النشطة فى صحافة الورق، فإذا هم بالجملة على الفضائيات أصحاب برامج، أو مُعدى برامج، أو ضيوف برامج. ولأن لهم بذواتهم وملامحهم حضورا حيا على الشاشات، فقد أصبحوا نجوما فى محيطهم وليسوا ظلالا بالأبيض والأسود على صفحات، ومن الطبيعى إنسانيا أنهم أعطوا أفضل ما عندهم للسهرة، حتى وإن وجدوا فى الصباح هوامش باقية من أحاديث الليل. (وكذلك أصبح ظهورهم باقتدار مستحق على الشاشات خصما إضافيا من رصيد الكلمة المكتوبة على الصفحات، وبالتأكيد فإننى استطيع أن أفهم، ولا أملك أن ألوم، فقد جذبنى التليفزيون إلى فضائه مثل الآخرين، وإن بغير انتظام فهو ظهور بين الحين والآخر لكن تبريرى لنفسى أننى فعلت ذلك بعد استئذان فى الانصراف من صحافة الورق، ثم اننى ابتعدت حتى بشهادة العمر عن متابعة حدث كل يوم!). والآن ما العمل، وكيف السبيل إلى حل الأزمة؟! ظنى أنه ليس هناك حل سحرى يغوص فى أعماق البحر بحثا عن لؤلؤة نائمة فى حضن صدفة. وإنما ظنى دون غوص فى قاع البحر أن كل قيمة تؤكد نفعها بمقدار ما تتسق مع طبيعتها، ومن ذلك أن الصحيفة الورقية لها وصف عالمى معتمد يعبر عنه اسمها الشائع وهو News paper أى صحيفة أخبار! وهكذا يجب أن تكون أو تعود! أخبار، وأخبار، بالعمق، بالدقة، بالتفصيل، بالتحليل، بالتعليق لكن الخبر يظل السيد على كل صفحة، من السياسة إلى القانون ومن الاقتصاد إلى الفنون. وإنما كيف؟! سؤالى لك فى نهاية هذه السطور: هل تستطيع «الشروق» أن تؤدى خدمة للصحافة الورقية فى «مصر» وفى الإقليم، وربما أوسع نطاقا؟! هل تستطيع «الشروق» أن تساند جهدا مكثفا يبحث عن حل يستعيد الصحة والحيوية للصحافة المكتوبة؟! هل من باب الحنين أن أقول إن الكلمة المكتوبة حياة تمشى ثابتة على الأرض، وأن الصورة عصفور أو صقر يخفق بجناحية فى الفضاء أو أن تلك أوهام تجاوزتها المستجدات نهائيا وإلى الأبد؟! دعنا نفكر ونتحاور ونبحث، فلابد أن هناك محارة تختبئ فيها لؤلؤة نائمة فى قاع البحر، قد نجد اللؤلؤة، أو قد نجد المحارة، ثم تكتشف أن غواصا انقض من الفضاء، سبق الكل وأخذ اللؤلؤة وترك لنا المحارة خالية، وطار إلى أجواء لم نعد نقدر على اللحاق به. أطلت عليك وبقى أن أؤكد لك التهنئة مجددا، وأن أكرر لك التقدير لكل أسرة «الشروق». محمد حسنين هيكل الأستاذ أثناء زيارته لصحيفة الشروق