لم يخرج الشعب المصرى فى يناير 2011 بحثا عن عنف، أو حبا فى إراقة الدماء، بل خرج على رءوس أشهاد العالم بسلمية واضحة رافضا كل عنف وعنت وقمع من الدولة تجاهه، ولا ينسى أحد أن جزءا أصيلا من قصة ثورة يناير، انطلق مع حادثة خالد سعيد الذى اغتالته يد الدولة الغليظة، وكلنا نعرف أن الثورة انطلقت باحتجاجات واسعة هى فى الأساس ضد الممارسات التى تزهق حياة الناس بسهولة، ولهذا كانت السلمية منهجا واسما وفعلا صاحبة البطولة المطلقة لثورة يناير، وكان فى اعتقاد الجميع أن هذه هى آخر أيام العنف والعبث بحياة المصريين، وأن القادم فيه احترام للحرية والكرامة الإنسانية، وأن حياة كل إنسان على هذه البقعة من الكوكب صار لها حمايتها وجلالها فى ظل نظام جديد أنجبته هذه الثورة من ميادين التحرير. لذا يصبح مسار السنوات الثلاث العنيف غير مفهوم ولا مقبول ولا كان مطلوبا، بل على العكس تماما مما كانت تعتقده الجماهير، إذ انطلقت من تلك اللحظة رشاشات دم لم تتوقف حتى الآن، ضربت فى الجميع من دون استثناء، والمؤسف أن كل ذلك كان يحدث بعشوائية مذهلة، والمذهل أكثر أن أحدا لم يقرر التراجع عن ذلك، وإنما استمر كل فى مسعاه، من دون أن يلتفت إلى أن الأرواح صارت أكثر رخصا مما كانت عليه قبل الثورة، وان حالة التوحش زادت فى مقابل تراجع كل ما هو إنسانى، والدقة تفرض علينا أن نشير إلى أن كثيرين غادروا المشهد بسبب إسالة الدماء وعبث تبريراته من جميع القوى، بل إن البعض أعلن ندمه وأسفه فى وقت مبكر (فى أعقاب الثورة مباشرة) لمجرد وجوده فى مشهد لا يهاب الأرواح ولا يجتهد للحفاظ عليها. بالطبع أعرف الكثير من التفسيرات لذلك، والتحليلات التى تكشف أسباب العنف والتوحش لدرجة القتل، لكن كل ذلك عصى على الفهم غير مقبول لا أعرف كيف أستوعبه، ناهيك عن أن كل ما يثار من تبريرات من جميع الأطراف تعكس حالة من الرثاء لما وصلنا إليه من جهل وخوف وخرف، كما تعكس هذه التبريرات عدم مسئولية الكبار والقيادات من جميع الحركات والتيارات، وحتى الآن مازلت أقاوم فكرة أن هناك من يبحث عن مزيد من الدم ليربح به معاركه السياسية. وقد أبدو ساذجا عندما أقول إن ما يحدث طارئ، ولا علاقة له بدولة حضارية مثقفة مثل مصر، ضاربة فى التاريخ بنعومة ورشاقة محبة للإنسانية أكثر من رغبتها فى القوة والعضلات، وقد أبدو ساذجا أكثر إذا ما قلت إن الغالبية تتألم مما يحدث حتى لو صرحت بغير ذلك، أو أعلنت عشقها لعنفوان القوة، وأخيرا لا أبالغ إذ كشفت عن أن بداخل كل مصرى الآن، رغبة محمومة للعودة لأيامه العادية بحلوها ومرها، بصراعه من أجل لقمة العيش وتربية أبنائه، عودة لأفراحه الصغيرة ومكاسبه البسيطة، فلا تصدقوا أن فى هذه البلاد من يعشق الدم.. فى هذه البلاد أناس طيبون يحبون الخير ويتمنون السلامة للجميع.. حتى لو طالهم جنون لحظى، فهم يعرفون كيف يعودون لرشدهم سريعا.. وندعو الله أن يتحقق ذلك بأسرع مما نتوقع جميعا.