يعد موضوع الأمن العربى وما يستدعيه من تعاون عسكرى وأمنى بين البلدان العربية من الموضوعات التى تلقى اهتماما فقط عند وقوع أزمات كبرى. ويتأثر الحديث عنها خفوتا وارتفاعا تبعا للتطورات التى تحدث فى المنطقة، ويهدف إلى محاولة ايجاد حلول آنية وقتية عادة ما تؤدى إلى نتائج كارثية تؤثر على أمن واستقرار الوطن العربى. فعند اجتياح العراق للكويت فى 1990 تحدث الكثيرون عن ضرورة تفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك وحتمية ايجاد منظومة دفاعية جديدة لحماية الدول العربية، الأمر الذى انتهى بفشل محاولات تكوين قوة عربية مشتركة تجمع دول مجلس التعاون الخليجى الست إلى جانب مصر وسوريا للدفاع عن أمن الخليج والتى عبر عنها اعلان دمشق، وحلت محلها قواعد عسكرية أمريكية متمركزة بصورة دائمة فى منطقة الخليج. وعند الغزو الأنجلو امريكى للعراق فى 2003 تكرر الحديث عن الضعف العربى وتضاؤل الإمكانيات العسكرية العربية وعدم قدرة الجيوش العربية على التصدى لأى عدوان خارجى ومرة أخرى ينتهى الأمر باحتلال العراق ودخولها فى أتون الحرب الأهلية. ومع اندلاع ثورات الربيع العربى وما خلفته من فراغ أمنى كبير بسبب انهيار أجهزة الأمن الداخلى أو تفكك بعض الجيوش العربية، تجدد الحديث عن ضرورة تحقيق تعاون أمنى للحفاظ على وحدة وتماسك البلدان العربية، خصوصا بعد تدخل قوات حلف شمال الأطلنطى (الناتو) فى ليبيا وتفاقم الأزمة السورية وتأثيرها على دول الجوار. وعلى الرغم من توقف بعض مبادرات التعاون العسكرى بين الدول العربية بسبب اندلاع الثورات العربية، كما حدث فى لواء شمال إفريقيا والذى كان يهدف إلى انشاء قوة عسكرية مشتركة تضم كلا من مصر وليبيا وتونس والجزائر تحت مظلة الاتحاد الافريقى يتم تفعيلها فى 2010، فلقد ظهرت محاولات عربية أخرى للتعاون العسكرى العربى ابرزها قرار دول مجلس التعاون الخليجى فى الدورة ال 34 والتى عقدت مؤخرا فى الكويت خلال شهر ديسمبر الحالى بإنشاء قوة عسكرية موحدة قوامها 100 ألف جندى. ربما من المبكر الحكم على قرار مجلس التعاون الخليجى، إلا أن بوادر الانقسام قد القت بظلالها على القمة الخليجية، بعد رفض سلطنة عمان صراحة وعلنيا المشروع السعودى لتحويل مجلس التعاون إلى اتحاد خليجى. ••• ومن المؤكد أن التهديدات الداخلية والخارجية للدول العربية ستتزايد، وأن الأزمات الأمنية والعسكرية لن تنتهى، ومن المتوقع مرة أخرى ان ترتفع الأصوات المطالبة بضرورة إيجاد تعاون عسكرى عربى وتطرح مرة أخرى مبادرات الحل السريع ومبادرات رد الفعل، لتأخذ مكانها المتميز على أحد الرفوف فى مكتبة عربية مهملة. فربما حان الوقت لأن ندرك أن موضوعا مثل الأمن العربى يجب أن يتخطى مفهوم إدارة الأزمات وأن يتم التخطيط له باعتباره هدفا استراتيجيا يتخطى اللحظة الراهنة والصراعات الوقتية. ولقد بدا لى مدى خطورة ربط موضوع الأمن العربى بالتطورات الراهنة عندما دعيت لإلقاء محاضرة فى إحدى الكليات العسكرية الغربية كجزء من برنامج تدريبى يجمع بين عسكريين ودبلوماسيين من الدول العربية والأجنبية منذ حوالى 9 أشهر. واخترت وقتها ان تكون المحاضرة بعنوان «ثورات الربيع العربى والتعاون العسكرى بين الدول العربية». وقمت باستعراض التحديات الأمنية التى تواجه المنطقة مع محاولة تقييم للتكتلات الأمنية الموجودة ومدى تأثرها سلبا وإيجابا بالثورات العربية. واتذكر جيدا تعليقين من الحاضرين على ما جاء فى المحاضرة، ليعبرا عن الواقع الأمنى العربى وتحدياته وربما مستقبله. فقد أعرب أحد الدبلوماسيين العرب الحاضرين عن استيائه من عنوان المحاضرة والذى يربط بين ثورات الربيع العربى والتعاون العسكرى بين البلدان العربية، موضحا أن مثل هذا الربط يعنى امكانية تدخل الجيوش العربية فى الشئون الداخلية للدول التى تقع بها ثورات مما يعد انتهاكا لسيادة الدول!!!! وأما التعليق الثانى فقد جاء فى حديث جانبى على هامش المحاضرة مع احد العسكريين الخليجيين والذى قال لى صراحة «لا ترهقى نفسك فى موضوع التعاون العسكرى العربى، فطالما الإخوان عندكم (يقصد تمكن جماعة الإخوان من الحكم فى مصر) فلا يمكن الحديث عن أى تعاون، ولا سيما التعاون العسكرى». وعلى الرغم من اندهاشى المؤقت من التعليقين، فإننى سرعان ما أدركت أنهما يجسدان معضلات نظرية الأمن العربى والتحديات التى تواجه الدول العربية لبناء منظومة أمنية عربية، أيا كان شكلها. ••• فالمشكلة الأولى تتمثل فى انعدام الثقة بين الدول العربية وسيطرة هاجس السيادة القومية، بحيث ترى الدول العربية أن أى تعاون أمنى عسكرى هو بالضرورة انتقاص من سيادتها قد يؤثر على تماسك الدولة نفسها، خصوصا إذا كانت هذه الدول تعانى من عدم استقرار. وهو ما عبر عنه الدبلوماسى العربى الذى اعترض على ربط التعاون العسكرى بثورات الربيع العربى، فهو لا يرى فى هذه الثورات وما خلفته من فراغ أمنى ما يستدعى التعاون الأمنى الإقليمى، وإنما ينظر إليها باعتبارها تهديدا كبيرا على الدول القومية الهشة ربما يستدعى انعزالا سياسيا وعسكريا. وهو ما ظهر جليا فى ارتفاع الانفاق العسكرى للدول العربية منفردة ليصل إلى ما لا يقل عن 106 مليارات دولار امريكى فى 2012، كان نصيب السعودية وحدها 52 مليار دولار امريكى. وأما المشكلة الثانية فهى الاختلاف فى ادراك التهديدات تبعا لاختلاف نظم الحكم، وتأثير التوجهات الأيديولوجية على القرارات العسكرية. ويعد هذا من أخطر النتائج المترتبة على ربط منظومة الأمن العربى بالأوضاع الراهنة، فصحيح أن نظم الحكم والتوجهات السياسية للدولة تؤثر على قوة أو ضعف الارتباطات الامنية بين الدول، الا انها يجب ألا تكون سببا فى انعدام التعاون الأمنى الاقليمى بأى حال من الأحوال. ••• والمربك، حقيقة، ان هذه المشكلات هى فى جوهرها خصائص للنظام الإقليمى العربى ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تغييرها فى المدى القصير ومن أجل تحقيق مكاسب سريعة تتعلق بأزمة مؤقتة، وبالتالى فالتعامل مع التعاون العسكرى العربى يجب ان يأتى فى إطار حوار استراتيجى واسع يشمل المنظومة الأمنية العربية، مستفيدا من الهياكل الأمنية الموجودة بالفعل، حتى وإن تأكد عدم نجاحها فى حل هذه الأزمة أو تلك. صحيح أن اتفاقية الدفاع العربى المشترك والتعاون الاقتصادى غير مفعلة وشبه مجمدة، وصحيح ان التعاون العسكرى العربى فى جامعة الدول العربية لا يتخطى إعداد قاموس للتعريفات العسكرية، إلا أن جامعة الدول العربية لا تزال تمثل المؤسسة الوحيدة التى تجمع جميع الدول العربية، وبالتالى فإنها تستطيع تبنى حوار استراتيجى أمنى غير إقصائى، وهو بالمناسبة سبب رئيسى فى فشل كل التكتلات الأمنية التى قامت فى المنطقة. وقد يكون التقارب المصرى السعودى الحالى، والذى اخذ شكلا عسكريا مؤخرا، قادرا على تعديل بوصلة الجامعة العربية نحو منظومة أمنية ضرورية، والتى يمكن أن تأخذ أشكالا عديدة، ربما قوة للتحرك السريع، أو منظومة دفاع صاروخى أو حتى تدريبات مشتركة تجمع معظم الدول العربية. فهل تستطيع مصر والسعودية أن تيقظا السلاح العربى من خلال جامعة الدول العربية من أجل الدفاع عن اجيال عربية قادمة ربما لن يصل إلى مسامعها نغمات نشيد العندليب «خلى السلاح صاحى»؟