كلا، هذه ليست انتفاضة. فالموجة الحالية من العنف لا تزال منخفضة. بيد أن المعطيات التى نشرها جهاز «الشاباك» (الشين بيت) لا تترك مجالاً للشك: لقد طرأ تغيّر ما، فالهدوء التام الذى ميّز يهودا والسامرة (الضفة الغربية) فى السنوات الأخيرة، والحدود مع قطاع غزة فى السنة الأخيرة، بدأ يحلّ محله نوع من عدم الهدوء. ففى حين سجلت 82 عملية اعتداء فى يوليو 2013 حدثت 50 منها فى الضفة الغربية، سجلت 167 عملية فى نوفمبر حدثت 107 منها فى الضفة الغربية. فبعد انقضاء فترة طويلة لم يسفر فيها النزاع الإسرائيلى الفلسطينى عن خسائر بشرية إسرائيلية، سجّل فى الأشهر الثلاثة الأخيرة مقتل جندى إسرائيلى بالقرب من قلقيلية، ومقتل جندى آخر بالقرب من الحرم الإبراهيمى، ومقتل مستوطن فى غور الأردن، ومقتل جندى فى باص فى العفولة، ومقتل عامل متعاقد مع وزارة الدفاع فى «ناحل عوز» بالقرب من قطاع غزة. وفي الأسبوع الماضى زرعت عبوة ناسفة فى باص فى «بات يام»، وطعن شرطى على حاجز «مفترق طرق آدم»، ورميت حجارة فى نابلس، وتزايدت الحوادث على طول السياج الأمنى مع قطاع غزة. وبالرغم من أن هذه ليست عاصفة، تبدل شيء بين منتصف فصل الصيف ومطلع فصل الشتاء. لقد تبدل مناخ النزاع. ما الذى حدث؟ إنه كيرى. فى 30 يوليو 2013، نجح وزير الخارجية الأمريكى فى إعادة إطلاق المفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، فزياراته العشر للبلاد منذ تسلمه مهامه، ومحدلة الضغوط التي مارسها إزاء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فعلت فعلها: عاد السلام مجدداً، وعادت اللعبة الدبلوماسية لعبةً حقيقيةً من الممكن أن تثمر فى غضون الشهر المقبل. وسواء رضوا أو لم يرضوا، على الشعبين الإسرائيلى والفلسطينى أن يتقاربا إرضاءً للسيد الأمريكى. خلافاً لكل التوقعات، هناك شيء يحدث. فمع تصميم جون كيرى وطموحه حتى الطماطم القاسية تلين وتصبح صلصة كاتشاب. هل سنحظى بالسلام بحلول نهاية العام 2014 ؟ ثمة شك كبير فى ذلك، لكن المسار الذى تفرضه واشنطن على كل من القدس ورام الله على الرغم من أنه لا يزال حلماً فى الأفق، بدأ يتحول إلى مسار جدى يؤثر فعلياً فى الواقع الميدانى. بدأ السلام الأمريكى يبدل وعى الإسرائيليين والفلسطينيين وسلوكهم. لكن مع الأسف، التبدل الأول هو معاودة العنف. وهذا نمط معهود: عندما تلوح فرصة توصل المعتدلين لدى الجانبين إلى تسوية تبدل الواقع، يضرب المتطرفون لدى الجانبين. فإذا نجحت عملية التفاوض سيؤدى ذلك إلى انسحاب إسرائيلى يقود إلى العنف، وإذا فشلت العملية سيؤدى ذلك إلى فشل الآمال المعقودة عليها إلى العنف كذلك. هكذا وفى كافة الأحوال، الطريق المؤدى إلى السلام معبّد بالدم. فحتى اتفاق أوسلو الأول والاتفاق الثانى وكذلك مؤتمر كامب ديفيد، جلبوا معهم عواصف من العنف. فعلى الرغم أن السلام هو أمنية الجميع، لكنه يقوّض الاستقرار ويؤدى إلى سفك الدماء فى المديين القصير والمتوسط. وما حدث فى الأشهر الأخيرة هو المقدمة فقط. وبقدر ما يواظب كيرى ويحرز تقدماً ويقترب من تحقيق الهدف، يزداد العنف. وسيحاول المتطرفون من بين العرب المسلمين واليهود الإسرائيليين على السواء، إغراق آمال السلام المتجددة فى أنهار الدم نفسها التى أغرقت سابقاتها. فهل يعنى هذا أن علينا الاستسلام؟ كلا، فمثلما لا ينبغى الإذعان للإرهاب الذى يهدد الدولة، لا ينبغى الإذعان للإرهاب الذى يتهدد السلام. وكما أنه واجب علينا أن نكون مستعدين لدفع ثمن الحرب الغالى، علينا الاستعداد لدفع ثمن السلام الأغلى. ففى بلد النزاع هذا، لا فرصة بأن يُقدم السلام على طبق من فضة. لكن الحقيقة هى أن السعى للسلام يكلف خسائر بشرية وهذا ينبغي أن يزيد من تصميم الساعين لتحقيق السلام، فالسلام الذى يدفع ثمنه بالدم الغالى ينبغى أن يكون سلاماً حقيقياً. والسلام الذى يضطرنا تحقيقه إلى عبور ممر من العنف، ينبغى أن يكون سلاماً راسخاً. وبالتالى، على كيرى وجماعته أن يحرصوا على أن تقربنا العملية السياسية الجديدة التى هم على وشك إطلاقها، من السلام الحقيقى.