«من يصفنى بأننى أفقر رئيس جمهورية فى العالم شخص لا يعرف معنى الثروة. أنا لست أفقر رئيس. أفقر منى هو من يحتاج إلى الكثير ليعيش. متطلباتى فى الحياة هى نتاج جروحى وآلام فترات سجنى وتعذيبى، أنا ابن تاريخى». ••• هكذا تحدث خوسيه موخيكا رئيس جمهورية أوروجواى تعليقا على تنامى شهرته كأفقر رئيس جمهورية. لم يبالغ من أطلق عليه هذه الصفة ولم يبالغ موخيكا فى التعبير عن تواضع حاجاته ومتطلباته، يعيش «فخامة» الرئيس البالغ من العمر 78 عاما فى بيت ريفى صغير خارج العاصمة مونتيفيديو مع لوسيا توبولانسكى رفيقة نضاله ثم زوجته. يصل الزائر إلى بيت الرئيس مارا بطريق ترابى تقف فيه سيارة يجلس فيها شرطيان لا يعملان شيئا سوى الاستماع إلى الموسيقى، هواية كل الأمريكيين اللاتينيين وشغلهم الشاغل. وفى نهاية الطريق وعلى مدخل البيت تمتد بعرضه حبال منشور عليها الغسيل، ويرقد كلب فقد ساقه الرابعة تصدر عنه أصوات كالنباح. وفى ركن من الحديقة بئر يستخدمها ساكنا البيت لطهو طعامهما ورى أحواض يزرعانها لتنبت لهما زهورا يبيعانها فى السوق. ••• تنازل السيد الرئيس عن الاقامة فى قصر يستخدم أكثر من أربعين شخصا لخدمته وخدمة زوجته، بالإضافة إلى ما يتكلفه من نفقات تشغيل وصيانة باهظة. ما زال يرفض أن تخصص له مقاعد فى الدرجة الأولى بالطائرة أثناء رحلاته الرسمية. وما زال يقود بنفسه سيارته الفولكس فاجين القديمة فى تنقلاته الشخصية. يذكر عنه أنه وصل إلى اجتماع البرلمان الذى انتخب فيه لأول مرة عام 1985 مستقلا دراجة بخارية من نوع «فيسبا»، وعندما سأله «السايس» إن كان سيقضى بالمكان وقتا طويلا أجاب: أرجو ذلك. وبالفعل قضى فى البرلمان أكثر من دورة وانتهى رئيسا للجمهورية. ••• فاز فى انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2009، وتولى منصبه فى 2010 وكان أول قرار اتخذه هو قرار الاستغناء عن 90٪ من مرتبه لصالح مشروع أهلى لإسكان الفقراء. ذاع صيته واشتهر فى أوساط اليسار فى أمريكا اللاتينية بأنه أحد نماذج اليسار الجديد الذى ينتمى إليه رئيس البرازيل السابق لولا دا سيلفيا وباتشيليت رئيسة شيلى التى جرى انتخابها للمرة الثانية قبل يومين. هؤلاء جميعا لم يرتاحوا إلى اليسار الذى كان يمثله هوجو شافيز رئيس فنزويلا السابق، وكلهم قادوا بلادهم نحو الاستقرار والتقدم ودرجة لا بأس بها من العدالة الاجتماعية. ••• هذا الرجل بخصاله وطبائعه وطموحاته، وغيره كثيرون فى أمريكا اللاتينية، ثمرة سنوات القمع والمعتقلات. انضم فى عقد السبعينيات إلى منظمة توبامارو الثورية حين كان هدفها تغيير نظام الحكم فى أوروجواى لصالح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لا ينكر أحد الآن أن القمع الوحشى الذى استخدمته قوى الجيش والشرطة ضد أعضاء المنظمة وعائلاتهم دفعهم إلى ممارسة عنف مقابل القمع فتورطوا فى أعمال سطو على المصارف واختطاف أو قتل رجال شرطة. كان نصيب خوسيه موخيكا 14 عاما قضاها فى السجون. هناك تطور فكره السياسى كما تطور فكر نيلسون مانديلا فى معتقله بجنوب أفريقيا. ليست كل السجون مثل بعضها. ففى سجن مانديلا لم يتعرض المناضل الأفريقى لتعذيب يقارن بالتعذيب الذى اشتهرت به سجون أمريكا الجنوبية. نذكر كيف تبارى ضحايا هذه السجون وأدباء القارة فى سرد تفاصيل التعذيب، وتباروا فى المقارنة بين التعذيب فى جواتيمالا وشيلى فى عصر خضعت الدولتان لحكم الاستبداد العسكرى بقيادة جنرالات عديدين فى الأولى والجنرال بينوشيه فى الثانية وبين عصور الاستبداد المتلاحقة فى الأرجنتين. يروى عن موخيكا أنه قضى عشر سنوات من حياته محبوسا فى قاع بئر. وفى حديث له عن هذه المرحلة من حياته تحت التعذيب قال إنه كان يتسلى فى قاع البئر بالتحدث إلى الضفادع والحشرات والثعابين ليحافظ على سلامة عقله، وليخرج من المعتقل قادرا على استكمال مشواره من أجل حرية بلاده ورخاء شعبه. ••• يعتقد موخيكا أن السياسة المعاصرة كما تمارسها معظم الحكومات ليست أكثر من «براجماتيات قصيرة الأمد». كما أنه لا يخفى انزعاجه لما يحدث من حوله فى هذا العالم. «لا يمكن أن نعيش فى هذا العصر بدون أن نتقبل شروط ومنطق السوق وممارسات الاستهلاك الزائد عن الحد». وكثورى مخضرم لا يفتأ يؤكد أن العالم سوف يبقى دائما فى حاجة إلى الثورات. «الثورات ليست رصاصا ومظاهرات. وقتلاها وجرحاها ليسوا دليلا على نجاحها واستمرارها. الثورات تتحقق عندما تفلح فى تغيير أفكار الناس، تماما كما أفلحت الكونفوشية والمسيحية، وكلاهما ثورتان». ••• قارنت خوسيه موخيكا بمن قابلت من رؤساء الدول وسياسييها أو قرأت وسمعت عنهم. قابلت سياسيين متواضعين واطلعت عن قرب على جوانب من حياتهم الشخصية، قابلت كثيرا من السياسيين فى الهند فى زمن اقرب إلى مرحلة الاستقلال وفى سيريلانكا وبنجلاديش. عرفت كيف كان يعيش الرئيسان ماوتسى تونج وهو شى منه فى بساطة وتواضع. وفى المقابل أعرف أن أى وزير أو مسئول كبير فى مصر يعيش فى رفاهة ويستمتع بامتيازات ويطلب دائما المزيد منها، غير عابئ بأن سيارته الفارهة والفاخرة وحدها لا تتناسب، بأى درجة، مع الحال المؤسفة التى يمر بها شعب مصر واقتصادها وأزماتها الاجتماعية الطاحنة. ••• خوسيه موخيكا وأمثاله من القادة الجدد فى أمريكا اللاتينية هم الدليل الأبرز أمام شعوبهم والعالم الخارجى على أن هذه القارة شهدت ثورات، وأن هذه الثورات أفلحت.