يبرز الزعماء ويرحلون، لكن قليلين منهم من يخلدون فى ذاكرة مجتمعاتهم وفى ذاكرة العالم. هكذا بدا مانديلا ساعة الرحيل عندما بكاه شعبه، وعندما نُكست له الأعلام فى أرجاء العالم. يجمع مانديلا فى مخيلة جيله ثلاث صور مترابطة لا يكاد اسمه يذكر حتى تقفز أمام عينيه: صورة المناضل الذى يملك عزيمة لا تفتر فى مواجهة الاستعلاء العنصرى والأبارتهايد، وصورة السجين، وصورة الزعيم الديمقراطى. فى الصورة الأولى حدد مانديلا هدفه بوضوح نحو اقتلاع النظام العنصرى واسترداد كرامة مواطنيه وحقوقهم. لم يجمد عند النموذج الذى استلهمه من الزعيم الهندى غاندى بالمقاومة السلبية، بعد أن فشلت فى مواجهة عنف مليشيات المستوطنين البيض وقواتهم الأمنية، فانتقل إلى اللغة الوحيدة التى يفهمها العنصريون وهى الكفاح المسلح. ولم يقف بتحالفاته عند مواطنيه، بل امتد بها إلى كل من يشاركونه الغضب من العنصرية ومهانتها، وخاطب العالم باللغة التى يفهمها واستقرت فى وجدانه بأنه يسعى إلى تحقيق ديمقراطية تقوم على أساس «صوت واحد لرجل واحد». وهكذا شق طريقه. وعندما اتهموه بالتخريب والشيوعية، وهى التهمة الجاهزة لكل المناضلين من أجل الحرية فى ذلك الوقت، حول محاكمته إلى منصة لمخاطبة مواطنية، ومخاطبة احرار العالم. ••• أما الصورة الثانية فهى صورة «السجين» فبقضائه 27 عاما متواصلة فى سجون النظام العنصرى أصبح أشهر سجين سياسى فى العالم وانطلقت حملات فى كل انحاء العالم تطالب بالإفراج عنه. ويدرك الذين عايشوا خبرة النضال الوطنى الأفريقى معنى أن يكون الإنسان سجينا سياسيا فى سجون النظم العنصرية، ولكن مانديلا لم يكن سجينا سياسيا فحسب بل كان مصنفا فى الفئه (دال) وهى فئة يحرم منتسبوها من كل الحقوق القانونية للسجناء، اكتفت بزيارة واحدة فى العام، ورسالة واحدة كذلك وحرمته من نظارة تقيه من غبار تقطيع الأحجار فأثرت على بصره، وتم نقله بين عدة سجون أُصيب فى أحدهها بالسل. وقد لا يكون مانديلا وحده من السياسيين الذين تعرضوا لمثل هذا الأذى، لكن قليلين الذين اتيحت لهم فرصة مغادرة السجن بعد 22 عاما بشرط واحد ان «يدعو لنبذ العنف»، والقصد هو الكفاح المسلح، فرفض فاستمر سجنه. وعلى باب السجن الذى خرج منه بعد 27 عاما قال ردا على اسئلة الإعلاميين «ان الأسباب التى من أجلها استخدمنا العنف مازالت قائمة، ولن أعلن انتهاء العنف الا بانتهاء سياسة الأبارتهايد». ••• اما الصورة الثالثة، فربما كانت أصعب من سابقتيها وهى صورة الزعيم الديمقراطى، بدأت بإصراره على مفاوضات يشارك فيها كل اطراف المجتمع: رفاقه ومنافسوه وخصومه، وقاد المفاوضات مع الرئيس ديكليرك لإلغاء الفصل العنصرى وإقامة انتخابات متعددة الأعراق أُجريت فى العام 1994 ووصفت «بانتخابات القرن» قاد فيها حزب المؤتمر إلى الفوز، بينما اعطى هو صوته «لديكليرك» الذى كان يرفع شعار» نحو معارضة قوية» وحتى لا يصنع «ديمقراطية الغالبين» وعندما انتخب رئيسا فى عام 1994 شكل حكومة وحدة وطنية لنزع فتيل التوترات العرقية، وأسس لدستور ادماجى لا مكان فيه للإقصاء. ورفض اندفاع بعض أطراف حزبه فى اتخاذ اجراءات انتقامية تجاه البيض، والاعتداء عليهم وطردهم من مساكنهم والإستيلاء على ممتلكاتهم. كما أسس لجنة «للحقيقة والمصالحة» للتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان فى الماضى حتى تلتئم الجراح، وقدمت هذه اللجنة تجربة ثرية للعدالة الانتقالية. ورغم شعبيته الطاغية أبى أن يرشح نفسه لولاية ثانية. وتفرغ من خارج قيود السلطة لتعزيز الديمقراطية ومكافحة الفقر. ••• فى خلفية هذه الصور الثلاث، يكمن معنى لا سبيل لإغفاله وهو التضامن من أجل القضاء على العنصرية، وأقف هنا عند دور مصر فى دعم نضال شعب جنوب افريقيا ضد العنصرية، ففى عام 1960 قطعت مصر علاقتها الدبلوماسية مع جنوب افريقيا إثر مذبحة شاربفيل التى ارتكبتها قوات النظام العنصرى ضد السكان السود فى هذه المدينة، وفى مرحلة مبكرة من الستينيات أيضا استضافت مصر حركتى التحرير الأساسيتين فى جنوب أفريقيا وقدمت خدمات التدريب العسكرى، والدعم الدبلوماسى الدولى، كما مصر فى التعبئة السياسية لكافة دول القارة باتجاه دعم شعب الجنوب ومقاطعة النظام العنصرى. وشاركت بفاعليته فى لجنة تحرير أفريقيا فى اطار منظمة الوحدة الافريقية بعد تأسيسها عام 1964، كما قدمت الدعم لما عرف بدول المواجهة بجنوب أفريقيا. ولم تقصر مصر جهودها على المستوى الإقليمى وحده بل تعدته للمستوى الدولى لتأمين الدعم اللازم لنضال شعب جنوب أفريقيا. وشاركت مؤسسات المجتمع المدنى العاملة فى مصر، وفى مقدمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان فى الحملة العالمية للإفراج عن نيلسون مانديلا. ••• تتغير أحوال الدنيا لكن تبقى فى ضمائر الشعوب المواقف العظيمة فى لحظات الشدة، وهذا ما فعله شعب جنوب أفريقيا فى المؤتمر العالمى الثالث لمكافحة العنصرية والتمييز العنصرى مع تباشير النصر عام 2001 عندما دعم بكافة فئاته قضيتنا المركزية فلسطين رغم أنف العنصرية الجديدة.