قبل حوالى العام، ذكرنا «زميل التجربة» محمد عصمت سيف الدولة بما كان قد كتبه قبل عقد من الزمان المستشار الراحل يحيى الرفاعى، شيخ القضاة ومؤسس تيار الاستقلال معلقا على خطر سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء: «فى بعض بلاد العالم يصبح القاضى المتمسك باستقلاله كالقابض على الجمر ... فلا يستطيع ان يعلن حكما تستاء منه الحكومة قبل ان يراجع نفسه الاف المرات، فليس صحيحا على اطلاقه انه لا سلطان على القضاء الا للقانون وضمائرهم، فالسلاطين كثير....» تذكرت ما قاله الرئيس الأسبق لنادى القضاة.. وتعوذت بالله. إذ أعرف، وتعلمت ممن أعرف من القضاة، أن لا سلطان عليهم غير الضمير والقانون. وأنه إذا «تعددت السلاطين»، لا تضيع العدالة فقط، بل يفقد المجتمع أهم عناصر تماسكه «واستقراره»، أن يشعر الناس أن هناك من يمكنهم أن «يطمئنوا» الى حيدته وعدله فيحتكمون اليه فى نزاعاتهم، وخصوماتهم. (عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم فى مصر التسعين مليونا قد يصل الى 30 ألف قضية يوميا). أقدر استقلال القضاء، ولا أعطى لنفسى الحق فى التعليق على إجراءات قانونية طالت هذا أو ذاك «من رجاله»، أو على أحكام لهذه الدائرة أو تلك، مهما بدا فيها مما استوقف القاصى والدانى. ولكنى أعرف أيضا أن النظام القضائى المصرى جعل للتقاضى درجات، ليسمح للدرجة الأعلى أن تصحح ما قد تراه من «عوار» فى الاستدلال أو التسبيب شاب هذا الحكم أو ذاك. قضية استقلال القضاء «ومهابته» قضية قديمة. وكمواطن «صاحب مصلحة» فى الحرص على هذا الاستقلال وتلك المهابة، أرجو من أصحاب المقام الرفيع أن يسمحوا لى بتدوين ملحوظات ثلاث على هامش أوراق «القضية القديمة». بدت لى هوامش ذات صلة. ••• (1) حرص القضاة على استقلالهم قديم، إذ نذكر مثلما يذكرون ما كان فى سبعينيات القرن الماضى بين المستشار محمد وجدى عبدالصمد رئيس نادى القضاة وأنور السادات رئيس الجمهورية (رحم الله الراحلَين)، حين وقف القاضى أمام جمع من رجال الدولة، يتوسطهم الرئيس ليسجل اعتراض القضاة «جميعهم» على محاولة السلطة التنفيذية (وأداتها التشريعية) الافتئات على مفهوم العدالة «العمياء» بإصدار قوانين تستهدف أشخاصا بعينهم. يومها قال القاضى للرئيس أنه «ما لم يقم على شئون العدالة قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة، فإن الأمر ينتهى أن تسود قوة السلاح وشريعة الغاب فتتأخر الأمم بعد تقدم وتفتقر بعد غنى وتضعف من بعد قوة. ومن ثمة كان الحرص على استقلال القضاء كسلطة وتوقير القضاة كأفراد وإحاطتهم بكل الضمانات وتأكيد مبدأ الشرعية وسيادة القانون». ••• (2) أن الفقه الديمقراطى عندما استن «حصانة القضاء» ضمانا لاستقلالهم، لم يكن ذلك مزية لهم أو «ريشة على رؤوسهم» كما تَقَول البعض للأسف، بل لكون ضمان استقلالهم فى أحكامهم ضمانة لأن يحصل المواطنون على حقهم فى أحكام عادلة، لا يذعن فيها القاضى سوى لضميره ونص القانون. ومن ثم ضمانة لأمن المجتمع واستقراره. يبسط طارق البشرى الأمر فى مقالين كان قد كتبهما فى «وجهات نظر» (مارس 2003، ويونيو 2005) فيقول: «عندما تجلس على منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد على الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا على شىء قط إلا أنهم يطمئنون إليك، وأنهم يثقون فى أنك بالاقتناع وحده، ستحكم لأحدهما بما يدعيه على الآخر. وإذا أمكن لك أن تستطرد فى التأمل، فستعرف أنهم لولا ثقتهم فى حيدتك واستقامتك، ولولا ثقتهم فى قدرتك على أن تحكم بما تقتنع بأنه الحق والصواب، لما أتوا إليك. والسؤال الآن هو: ما الذى يحدث إذا لم يأتوا إليك، والحال أن لكل منهم حقا يدعيه لنفسه أو أنه يشكو من ظلم يطلب رفعه عنه، وهو فى حال ضرورة أو احتياج لاقتضاء حق يدعيه أو لرفع ظلم يعانى منه، وأنه يتكبد فى سعيه إليك جهدا ومالا وقلقا وانتظارا. الذى سيحدث هو أنه سيسعى لاقتضاء حقه بيديه، أى أنه سيلجأ للعنف إن عاجلا أو آجلا. من هنا يظهر أن القضاء المستقيم والمقتدر هو أساس لا يمكن الاستغناء عنه ولا بديل عنه، لكى تحل الخصومات داخل الجماعة الحضارية بالوسائل السلمية المشروعة، لأنه به وحده تتحول الخصومات من وسائل استخدام العنف لحماية الحقوق أو لاقتضائها إلى وسائل استخدام الحجج والأسانيد الحقوقية التى تعتمد على أحكام وقواعد معروفة سلفا. وإذا انحسرت هاتان الصفتان عن القضاء وعم العلم بانحسارهما، فليس معنى ذلك أن ظلما سيشيع ولا أن حقا سيهضم، وإنما معناه أن أساسا من أسس تحضر الجماعة قد انهار». ••• (3) أتمنى ألا يأخذ ما يجرى فى مصر الآن جلالَ القضاة أو ميزانهم الى حيث لا يطيقون، أو الى حيث لا تطيق العدالة. أعرف أن فى النهر ما فيه، وفى النفوس ما فيها. ولكنى أثق فى أن القضاة يدركون ما أوكله الله لهم من أمانة «العدل»، الذى هو اسم من أسمائه سبحانه. وأنهم، بوصفهم الأجدر والأولى بسمو ما ائتمنوا عليه، سيعملون على طى صفحة أو صفحات فيها ما فيها، ويجعلون نصب أعينهم، قبل كل شىء الحفاظ على مهابة منصة، ودقة ميزان لو اهتز لارتبك المجتمع وعمت الفوضى. ولعلى لا أستطيع أن أقرأ ما نقلته الصحف قبل يومين عن مشاجرة بالأيدى فى شوارع طنطا بين وكيل نيابة وضابطى شرطة وصلت الى حد وضعهم الكلبشات فى يد وكيل النيابة إلا فى هذا السياق، وأرجو، كمواطن يحرص على مهابة القضاء والقضاة، ويخشى عليها من تداعيات وتفاعلات وتجاذبات مراحل انتقالية تداخلت، أن يجتمع شيوخهم (ربما من تركوا المنصة بحكم السن أو غيره) ليتداولوا فيما يرونه لازم للحفاظ على تلك المهابة مظلةَ عدل لا يستغنى عنها مجتمع، أى مجتمع مهما تباينت مواقفه السياسية ... وأحسبهم بالضرورة الأدرى بمستوجبات ذلك. إذ لعلى ممن يرون أنه لا ينبغى لنا أبدا أن نستخف بآثار لا بد وأن تترتب على إسقاط مهابة منصة «وميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء اليه. ولعمد كل منهم الى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولسقطت «الدولة» التى هى بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس. ولفشل الحاكم أيا من كان هذا الحاكم فى إدارة أمور بشر يتجاوز تعدادهم التسعين مليونا. ••• وبعد .. «فالسلاطين حقا كثير» لا أتحدث عن القضاء، بل عن مجتمع بأكمله. تشابهت عليه الحقائق والرؤى، صدقا ومبالغة وأكاذيب. وعن لحظة تشابكت مؤثراتها على الجميع، ضغوطا وهواجس.. وإرهابا ودماء. فضلا عن ما ورثناه من صدامات مراحل انتقالية مرتبكة، توجسات وثأرات وحسابات وترصد وفقدان ثقة. لا أقول انظروا الى أحكام القضاء. بل انظروا الى قرارات الحكومة، والى مواقف السياسيين، والى القوانين الجديدة، والى مواد الدستور. هى لحظة «اللا يقين». وليس كمثلها لحظة على ضمير أى قاض. يعرف أن حسابه فى النهاية عند ربه، وأن ليس له أن يحكم الا بما استقر فى «يقينه». وقانا الله شر اللحظة، ما ظهر منها... وما بطن.