لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إن الشرق الأوسط يواجه فى هذه المرحلة المفصلية من تطوره السياسى تحديا لم يسبق ان تعرّض له منذ اتفاقية سايكس بيكو التى قسّمت المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية، وهو تحدّ يضع المنطقة عند مفترق طرق رئيسى يتقرّر بناء عليه مستقبله وبالتالى ما إذا كان سيعبر إلى آفاق أرحب من الديمقراطية والاستقرار والتنمية، أو سينزلق إلى آتون الفشل والتفكك ومن ثم إلى المزيد من الفقر والتخلف والتبعية. ويمكننا إجمال التحديات التى تواجه المنطقة فى المرحلة الراهنة فى أربعة، من بينها مشكلتان تقليديتان نكاد نصفهما بالتحديات شبه الأزلية كالصراع العربى الإسرائيلى وفى لبّه القضية الفلسطينية، ثم وضع إيران فى المنطقة وجدلية العلاقة بين طهران والغرب من ناحية وبينها وبين الدول العربية من جهة أخرى، والتى تتغير صعودا وهبوطا وفقا لمدى احتياج الغرب لإيران واستعداده لدفع ثمن ذلك بعلاقات أقلّ تقاربا مع الدول العربية. أما التحديان الآخران فيتعلقان من جهة بالطريقة التى سيتمّ من خلالها الانتهاء من الأزمة السياسية فى سوريا بكافة تعقيداتها ومآسيها وأخيرا مصير الربيع العربى خاصة فى مصر، وفى التقدير أن كيفية التعامل مع هذه التحديات الأربعة فى المرحلة القادمة سيحدّد بدرجة كبيرة مستقبل المنطقة. ومن المهم فى هذا الإطار التنويه إلى وجود ارتباط وثيق يربط هذه المشكلات بعضها ببعض بحيث أن بروز إحداها إيجابا أو تراجع آفاق حلّها سلبا سيتفاعل مع بقية المشكلات أيضا بالإيجاب أو بالسلب، ويزيد من أهمية هذا العامل أن المشكلات الأربع تقترب من مرحلة الحسم بمعنى أن آفاق الحل تبدو قائمة خلال الأشهر القادمة، وبالعكس فإن إهمالها فى هذا الوقت بالذات سيؤدى إلى تفاقمها إلى الحدّ الذى سيجعلها عصيّة على الحل لمدة سنوات طويلة، وفى هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت ثلاث من هذه المشكلات تتجه نحو انفراج مُحتمل وقد يتمخّض عنها تحولات إيجابية إذا ما تمّ التعامل معها بالشكل السليم، فإن مشكلة عملية السلام فى الشرق الأوسط لا يزال تحديا شائكا ولا يلعب عامل الوقت فى صالحه بل يزداد تعقيدا كلما تقادم ولم يتمّ تدارك الفرص الضائعة التى تنتج عن التسويف وعدم الاستغلال الأمثل لعامل الوقت. ••• على صعيد الصراع العربى الإسرائيلى، فعلى الرغم من وجود بوادر أمريكية على وجود نيّة جديّة فى تحقيق تقدّم فى عملية السلام فى المنطقة، إلاّ أن حلّ الدولتين يتلاشى يوما بعد يوم فى ضوء عدم وجود إرادة إسرائيلية حقيقية لحلّ القضية حلا شاملا وعادلا يستند إلى حقيقة مؤداها أن من مصلحة إسرائيل ذاتها حلّ هذا الصراع من خلال إعادة الأرض لأصحابها والانصياع للشرعية الدولية بالكفّ عن تغيير الواقع على الأرض عبر استمرار الأنشطة الاستيطانية التى تفرّغ أسس الحل من سياقها، وأن أحلامها بالاحتفاظ بالأرض وفرض سلام وفقا لشروطها بالاعتماد على التسويف وإضاعة الوقت تارة والانتفاع من الأزمات التى تعانى منها المنطقة تارة أخرى لن يفيدها، فهل سيدرك العالم ذلك وهل ستتوافر له الإرادة السياسية فى المرحلة القادمة بغية حلّ أزمات الشرق الأوسط عبر الضغط على إسرائيل بما يلزمها باتخاذ خطوات حقيقية نحو الحل. أما إيران فتمثّل أيضا وبسبب الظروف التى تمرّ بها المنطقة تحديا كبيرا فى المنطقة بما يتّضح من وجود محاولات غربية حقيقية لحلّ خلافاتها الطويلة والمتشابكة معها حول الملف النووى، مما يفتح آفاقا لعلاقة جديدة بين إيران والغرب بما يترتّب على ذلك من تداعيات على أمن الخليج والعلاقات العربية مع كل من الولاياتالمتحدة وأوروبا، فهل سيتمكن العرب من خلال صحوتهم الديمقراطية إلى الوصول إلى المعادلة الصعبة مع إيران التى تتمثّل فى التوصّل الى نظام أمنى يضمن المصالح العربية مع الحفاظ على توازن المصالح وعلاقات حسن الجوار مع إيران. إن الإجابة عن هذا التساؤل يدخل أيضا ضمن سبل مواجهة التحديات التى تواجه الشرق الأوسط حاليا. وتعدّ سوريا مثالا آخر لتحدٍ مأسوى كبير تواجهه منطقة الشرق الأوسط، وهو تحدٍٍ ناتج عن سنوات من الممارسات السلبية كرّسها كل من النظام السورى ودول المنطقة والقوى الكبرى مجتمعة، إلاّ أنه وُجد فى الفترة الأخيرة بصيص أمل يُنبئ بإمكان إيجاد مخرج لحلّ هذه المشكلة تمثّل فى التقارب الروسى الأمريكى الذى يُمكن أن يسهم فى حلّ الأزمة السورية بشكل يعفى البلاد من مخاطر التدخل العسكرى والتقسيم وبما يؤمّن مخرجا آمنا للأزمة السورية، وهو بدوره دليل آخر على أن أحد التحديات الكبرى فى المنطقة يقف على مفترق طرق، فإمّا حلّه بشكل عقلانى ومنطقى يتجاوز المصالح الدولية والإقليمية الآنية ويُعلى من مصلحة المنطقة فى الأمد الطويل من خلال التوصل إلى صيغة ملائمة لعقد مؤتمر جنيف 2، وإمّا أن يستمر النزاع الدموى الذى قد يُنهى الآمال فى علاج الموقف علاجا سلميا. ••• وربما لا نبالغ أيضا بالقول إن المسار الذى ستسلكه ثورات الربيع العربى وخاصة فى مصر سيكون العامل الرئيسى فى إشاعة مناخ الديمقراطية والحرية والازدهار التى ستنعكس على بقية دول المنطقة وتُسهم بالتالى فى علاج التحديات الرئيسية الأخرى بها. فمصر كانت دائما بوتقة الصهر التى تنخرط فيها الحركات والتيارات المختلفة التى تجتاح المنطقة حتى وإن لم تنشأ فيها. فالتاريخ يعلّمنا أن لا مستقبل لأيّة أفكار أو حركات جديدة بالمنطقة ما لم تمرّ بمصر، فكما نشأت أفكار القومية العربية فى الشام واكتسبت زخما حقيقيا وفاعلا بعبورها واستقرارها فى مصر، فإن موجات التحرّر الثانى التى تشهدها المنطقة العربية والمتمثلة فى رياح التحرر والديمقراطية، قد بدأت فى تونس إلاّ أن قوة الدفع التى تسمح لها بالاستمرار والتطور لم تكن لتتحقق لولا مرور هذه الحركات بمصر. ومن هنا فإن دواعى ضمان نجاح موجات الحرية والديمقراطية التى من شأنها تهيئة المنطقة إلى الاستقرار والتنمية والوحدة رهن بما ستكتسبه التجربة الديمقراطية فى مصر من نجاح أو ما ستُمنى به من فشل. لذا ففى التقدير أن ما تموج به الساحة السياسية المصرية من تفاعلات وما تشهده من محاولات لإصلاح مؤسسى ودستورى، والطريقة التى سيتمّ من خلالها تحديد الأدوار السياسية للمؤسسات الفاعلة تقليديا فى المجتمع كالتيار الدينى والمؤسسات الأمنية سيكون له الأثر الأكبر على مستقبل المنطقة، فمثلما كانت مصر مثالا للدولة الوطنية الحديثة فى القرن التاسع عشر، فيمكنها أيضا أن تصبح نموذجا يُحتذى للدولة الديمقراطية الحديثة فى القرن الحادى والعشرين. إسرائيل بلا شك على دراية تامة بمدلول وتبعات مفترق الطرق الذى تقف عنده المنطقة فى الوقت الراهن، حيث تسعى ألّا تخرج التفاعلات التى تشهدها التحديات الأربعة فى المنطقة بأية نتائج إيجابية، إمّا من خلال عرقلة أى اتفاق محتمل بين الغرب وإيران، وإمّا عبر انتهاج سياسة التسويف وإضاعة الوقت والاستمرار فى الاستيطان للقضاء على عملية السلام ووأد حلّ الدولتين. ••• لا يساورنى أى شك فى أن للمنطقة العربية ومصر خاصة دورا فى علاج هذه التحديات لإقامة نظام عربى فاعل، نظام يحفظ للمنطقة العربية مصالحها من خلال العمل على ضمان توازن المصالح مع القوى الكبرى من جهة ومع القوى الإقليمية الهامة الواقعة على تخوم المنطقة كإيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا من جهة أخرى، فنجاح مصر فى ترتيب البيت من الداخل والعبور إلى الديمقراطية سيلعب دور رمانة الميزان فى المنطقة كى تحذو المنطقة العربية حذوها فى التجربة الديمقراطية وستكون مصر على صعيد آخر بمثابة العمود الفقرى لأى نظام عربى فاعل يتعامل مع جيرانه بنديّة ويتحكّم فى أمن الخليج ويضع نواة للتعاون الإقليمى ويدحض المحاولات الإسرائيلية للعب على نقاط ضعف المنطقة بما يؤمن ميولها للريادة ويُبقى على المشكلات التى تواجه المنطقة على ما هى عليه. وكيل اول وزارة الخارجية الأسبق