فى الاستراتيجيات العسكرية، الدفاع عن الدولة يبدأ من خارج حدودها، لتبقى الحدود دائما خط الدفاع النهائى لأى اعتداء على أراضى الدولة، ويجب أن يكون الوضع كذلك بالنسبة للقوات المسلحة المصرية. مع ارتفاع الاصوات المطالبة للفريق اول عبد الفتاح السيسى بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ومع عدم اغلاق السيد وزير الدفاع الباب امام هذه الدعوات، ظهرت تحليلات سياسية عن خصوصية الحالة المصرية فى العلاقة بين القوات المسلحة والدولة المصرية، وأهمية الدور الذى يمكن ان تلعبه المؤسسة العسكرية فى المعترك السياسى. وعلى الرغم من الارتباط الوثيق بين الجيش والنظام السياسى المصرى منذ 1952 بل وقبل ذلك، الدور المحورى الذى قام به الجيش فى المراحل المختلفة لتطور الدولة المصرية الا ان الحديث عن حتمية ان يتولى اعضاء من القوات المسلحة للحكم نظرا للحالة الامنية غير المستقرة وضعف الدولة المصرية وترهل مؤسساتها استنادا على خصوصية الحالة المصرية وتفردها، حديث يحتاج الى تدقيق.
يطغى على الكتابات عن العلاقات المدنية العسكرية السؤال البديهى: لماذا يبدو غير مقبول ان تقوم المؤسسة العسكرية بتولى السلطة على الرغم من انها المؤسسة الاكثر تماسكا وقوة وانضباطا؟ تأتى الاجابة بنعم لسببين رئيسيين: السبب الاول هو ان المجتمعات المعاصرة مجتمعات معقدة تتنوع انشطتها، وبالتالى فإدارة هذه الانشطة المتنوعة تفوق قدرات القوات المسلحة فى دولة متقدمة كانت أم نامية. ولذلك فإن بعض الذين يطالبون الجيش بإدارة شئون البلاد لا يفعلون ذلك تعظيما وتملقا للقوات المسلحة وانما لاعتقادهم بأن المجتمع المصرى بدائى، وهو فى الحقيقة اعتقاد غير صائب. صحيح ان هناك مشكلات سياسية واقتصادية وامنية كبيرة جدا، وصحيح ان هناك ترهلا فى جميع مؤسسات الدولة تقريبا الا ان هذه التحديات ابعد ما يكون عن البدائية، وتحتاج الى حلول غاية فى التعقيد، قد يصعب على المؤسسة العسكرية والمنتمين اليها، بسبب تكوينهم وتأهيلهم وادراكهم لدورهم، صياغتها. وبالتالى فمن يطلب من الجيش دخول المعترك السياسى يحرج المؤسسة العسكرية ويحملها ما لا طاقة لها به، ويؤدى ليس فقط لإضعاف الدولة والمجتمع وانما ايضا قد ينال من شعبية الجيش وقياداته. هذه المطالبات فى حقيقتها محاولات يائسة من القوى السياسية المدنية المختلفة للهروب من مسئولياتها. فبدلا من ان تقوم القوى السياسية ومن نحسبهم قادة للتيار المدنى من مناقشة برامج سياسية واقتصادية حقيقية، يستنزفون طاقتهم ووقتهم فى محاولة عقد تفاهمات مع القادة العسكريين. وأعتقد أنه لو قرر الفريق السيسى عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة فسيخرج علينا هؤلاء ببرامج غير دقيقة لن تختلف كثيرا عن مشروع النهضة الوهمى الذى قدمه الإخوان. واما السبب الثانى للإجابة بنعم عن السؤال عن ضرورة ابتعاد الجيش عن الحكم فهو ان السلطة السياسية تحتاج دائما لغطاء سياسى شرعى لا يستند على مفهوم القوة فقط. فليس كافيا، بل وربما غير محبذ، ان يتولى الحكم من هو اقوى أو من يلوح بالعصا الاكبر، بل لابد من غطاء سياسى دستورى يعطى شرعية للسلطة الحاكمة ويزيد من وسائل القوى الناعمة للدولة. اما مطالبة الفريق السيسى، والذى يأتى على رأس المؤسسة الأقوى فى مصر، بأن يخوض الانتخابات الرئاسية، وان كان من حقه ذلك، فإنها قد تعطى الفرصة لقوى عديدة للضغط على الحكومة المصرية بل والجيش المصرى. إن المتابع للأبحاث الامريكية عن القوات المسلحة المصرية قبل ثورة 25 يناير 2011 بأعوام، يجد اتجاها شديدا لتقليص المعونة العسكرية لمصر، وتغيير برامج التسليح بحيث يتم تقليل المعدات العسكرية الثقيلة الممنوحة للجيش المصرى وعرض برامج لتدريب الجيش المصرى على مكافحة الارهاب بدلا من التدريبات القتالية لمواجهة الجيوش النظامية. واستغلت الولاياتالمتحدة فرصة انحياز الجيش المصرى للجماهير فى 30 يونيو لتحقيق بعض التوصيات التى جاءت فى التقارير الأمريكية والتى ظلت معطلة لسنوات، بل وربما لعقود، وقامت الولاياتالمتحدة بتجميد جزء من المعونة العسكرية لمصر. واذا كان تدخل الجيش بعد 30 يونيو ضروريا للحفاظ على الدولة المصرية والامن القومى المصرى بغض النظر عن تداعيات هذا التدخل، فإن ترشح عسكريين لمنصب رئيس الجمهورية قد يفتح طرقا كانت موصدة للضغط على الدولة المصرية. ويجب ألا يفهم من ذلك اننا نطالب بأن يكون القرار المصرى مترددا متوقفا على مباركات قوى خارجية، على العكس تماما، فمن أجل صناعة قرار مصرى مستقل يجب علينا الحذر وعدم اعطاء الآخرين سببا للتدخل فى شئوننا إعمالا بالمثل المصرى «امشى عدل يحتار عدوك فيك».
إذا كان الإخوان المسلمون أعادوا أخطاء مبارك، بمحاولاتهم الاستحواذ على السلطة وتسخير الجهاز الأمنى لتمكينهم من مؤسسات الدولة، واذا كانت القوى المدنية الحالية تعيد أخطاء جماعة الاخوان المسلمين فى محاولة ايجاد مواءمات مع قادة الجيش، وحصر العملية السياسية بينهم وبين القوات المسلحة من دون النظر الى مشكلات المجتمع المصرى ومحاولة حلها، فمن المنطقى ألا تكرر المؤسسة العسكرية اخطاء سابقة، حين ساد التصور ان باستطاعة المؤسسة العسكرية تصدر المشهد السياسى للحفاظ على الامن القومى وعلى موقع الجيش المتميز فى الدولة. فلقد اثبتت التجربة العملية ان المعترك السياسى يضر بالجيش اكثر مما يفيد، وان القوات المسلحة وقادتها يحمون ولا يحكمون، وهذا يأتى متسقا مع الدور الذى قامت به القوات المسلحة فى ثورة 30 يونيو وأكد عليه الفريق السيسى مرارا وتكرارا منذ توليه منصبى وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. ففى الاستراتيجيات العسكرية، الدفاع عن الدولة يبدأ من خارج حدودها، لتبقى الحدود دائما خط الدفاع النهائى لأى اعتداء على اراضى الدولة، ويجب ان يكون الوضع كذلك بالنسبة للقوات المسلحة المصرية، فعليها ان تكون بعيدة عن الصراعات السياسية قدر المستطاع فهى تمثل حائط الصد النهائى الذى يحافظ على تماسك الدولة. ولعل هذه التحديات التى تواجه القادة العسكريين فى حال ترشحهم للرئاسة هى التى تفسر التردد الشديد للفريق السيسى خوضه الانتخابات الرئاسية، تصطدم بالواقع السياسى المصرى المرير الذى نعيشه. فالتيار المدنى، والذى من المفترض ان يمثل بديلا قويا للإخوان المسلمين بعد 30 يونيو، هو من يطالب قادة المؤسسة العسكرية بالترشح للرئاسة غير مكترثين بصياغة رؤية سياسية أو إعداد برامج انتخابية قوية من شأنها ان تحدث التفافا شعبيا حولها. فعندما يبحث المواطن المصرى عمن يضمن له مستقبلا أفضل ولكنه لا يجد حتى من قادة التيار المدنى من يعده بأنه سيبذل قصارى جهده من أجله فى قادة التيار المدنى. فهم مشغولون بانتظار قرار المؤسسة العسكرية فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية. ويغفل هؤلاء ان القرار فى أيديهم هم، وأن عليهم التعاون مع القوات المسلحة بدلا من المضى فى ظلالها، والالتفات للجماهير التى سئمت انتظارهم.