«الجندى الماهر هو الذى يكسب الحرب بما يتوافر لديه من سلاح، وليس بما يحب أن يكون لديه من أسلحة».. حين استمعت إلى اللواء أركان حرب على حفظى، محافظ شمال سيناء الأسبق، الذى قاد عمليات الاستطلاع خلف خطوط العدو الإسرائيلى فى أثناء حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م، تردد بداخلى هذا المثل الروسى عدة مرات كلما جادت ذاكرة القائد حفظى فى حواره مع «الشروق» بقصص الإصرار والعزيمة التى كتبها الأداء المبهر للجنود فى المعركة. وما بين ملحمة التحرير ومعارك التعمير لسيناء التى وصفها مفكرنا الكبير جمال حمدان بأنها «قدس أقداس مصر»، لا يزال الجندى المصرى محتفظا بموقعه فى المقدمة مقاتلا ومقاوماً لكل أشكال العدوان.. وإلى نص الحوار: ● بعد أربعين عاما على انتصار أكتوبر.. ما رأيك فيمن يقول إن التحرير لم يكتمل بعد؟ تحرير سيناء تم بشكل كامل، فقد كان لدى الإنسان المصرى إصرار على ذلك بعدما قال الإسرائيليون فى أعقاب عدوان 1967م إن مصر أصبحت جثة هامدة لن تقوم إلا بعد 30 سنة. بدأنا طريق التحرير منذ عام 1967م نفسه من خلال معارك الاستنزاف العظيمة مثل معركة «رأس العش»، رغم صعوبة الظروف وضعف الامكانيات، لكننا جميعا كنا مصممين على استرداد الأرض والكرامة. وتحرير سيناء لم يكن فى عام 1973 فقد بدأ قبل هذا التاريخ واستمر حتى عام 1989، أى أنه استغرق 22 سنة، من خلال مراحل عديدة ما بين الصراع العسكرى والتفاوض السياسى والعسكرى أيضا، حتى التحكيم الدولى فى أرض طابا وإصدار الحكم لصالحنا. ● لكن البعض يقولون إن هذا التحرير تم تقييده باتفاقية كامب ديفيد؟ الاتفاقية التى تتحدث عنها الهدف منها إبقاء الأوضاع بين الجانبين بشكل لا يسمح بالتوتر، ورغم مرور كل هذه السنوات على اتفاقية السلام إلا أنها لم تجعلنا ننسى أن عدونا الأول هو إسرائيل، كما أن الإنسان المصرى لا يقبل أى شكل من أشكال التطبيع مع الإسرائيليين. والاتفاقية لا تعنى أن الصراع انتهى فهو قائم دائما بأشكال مختلفة. أما القول بأن التحرير تم تقييده، فهذا غير صحيح، وأتحدى أن يأتى أحد ويقول إن إسرائيل استطاعت منع الجيش من عمل أى شىء على أرض سيناء منذ أربعين سنة، ما نريد أن نفعله ننفذه على الفور، لكن مع إخطار الجانب الإسرائيلى من خلال أجهزة الاتصال بين الطرفين، والإسرائيليون لو قاموا بعمل مماثل يقومون بإبلاغنا، أتحدى أيضا أن يقول أحد إن مصر طلبت يوما أن تقوم بشىء ما فى سيناء وقيل لنا لا تقوموا بذلك، اتفاقية السلام هدفها إبقاء الطرفين بعيدا عن التوتر العسكرى، ومع ذلك فهى لا تلغى الصراع القائم مع إسرائيل، وسيستمر للأبد. ● ما الذى أعاق تنمية وتعمير سيناء رغم كل السنوات التى مرت دون حروب؟ سيناء فى تاريخ مصر القديم حتى أكتوبر 1973 كانت النظرة دائما لها بأنها مسرح للحرب من خلالها ندافع عن أمن مصر، ولم تتغير هذه النظرة نحو فكرة التنمية إلا بعد انتصارنا فى حرب أكتوبر، وهى البقعة الوحيدة التى تتوافر عليها كل مقومات التنمية الشاملة مثل الزراعة والتعدين والصناعة والسياحة والطاقة والعمران. ونحن بدأنا بالفعل من خلال «المشروع القومى لتنمية سيناء» فى عملية التعمير فى منتصف التسعينيات حين كنت محافظا لشمال سيناء، وتم إنشاء شبكة طرق طولها سبعة آلاف كيلو متر أى 15% من طول الطرق فى مصر كلها، وتم توصيل الكهرباء لكل شبر فى سيناء، بل إنها تصدر لمدن غيرها ولبلدان مجاورة مثل الأردن، وخطوط المياه والمدارس والمستشفيات التخصصية متوافرة فى الشمال والجنوب فى سيناء، وقمنا بهذا الدور كحكومة فى تلك الفترة لتوفير البنية التحتية حتى يأتى القطاع الخاص ويستثمر ويقيم المشروعات المختلفة. والحقيقة أن عملية تنمية سيناء كانت مستمرة أثناء حكومة الدكتور كمال الجنزورى حتى عام 1999، وحين أقالوه وأقالونى معه وجاء الدكتور عاطف عبيد رئيسا للوزراء، بدأ الاهتمام بسيناء يتراجع، حتى أصبحنا نتساءل عن علة توقف مشروعات التعمير والتنمية. وإذا تم استئنافها فأتوقع أن نرى ملايين المصريين هناك فى غضون عشر سنوات. ● لماذا توقفت مشروعات التنمية والتعمير فى سيناء؟ لى صديق كان يشارك فى وفد التفاوض المصرى مع الإسرائيليين بشأن طابا، وهذا الصديق من قادة سلاح البحرية، وحضر آخر جلسة تم فيها تسلم مصر لكامل سيناء، وكان آرييل شارون موجودا ضمن ممثلى إسرائيل فى التفاوض وسأل صديقى عما سيفعلونه فى سيناء مستقبلا، فقال له إن لدينا مشروعا قوميا وإننا سنعمرها بحوالى 3 ملايين مصرى، فرد عليه شارون قائلا: هل تظنون أنه من مصلحة إسرائيل أن تترك مصر تفعل هذا؟ تنمية سيناء ليست فى مصلحة إسرائيل، ولا تزال لديها أطماع فيها، فهى تسعى لحل المشكلة الفلسطينية عن طريق سيناء والضفة الغربية، وفى هذا تكمن علة توقف التنمية فى سيناء. كما أن بعض الأطراف الفلسطينية تريد حل مشكلتها عن طريق سيناء أيضا. ● لكن حماس تنفى دائما هذا الكلام؟ النفى شىء والواقع شىء آخر، من سبب «البلاوى» فى سيناء. إسرائيل انسحبت بشكل أحادى من غزة وبعد ذلك تزايدت أعداد الأنفاق بين مصر وغزة بشدة وهى بمثابة «ينابيع الشر»، نحن كمصريين نحب مساعدة الفلسطينيين لكن أريد أن أساعدك فوق الأرض وليس تحت الأرض. ● معبر رفح ليس مفتوحا للمساعدة فوق الأرض؟ مشكلة المعبر لا دخل لنا فيها، الفلسطينيون هم سبب هذه المشكلة، كان هناك اتفاق دولى تم الإخلال به من جانبهم بسبب وجود حكومتين واحدة فى غزة والأخرى فى الضفة. ومع ذلك فقد كنا نتظاهر بأننا لا نرى الأنفاق من أجل توصيل الاحتياجات الإنسانية إليهم فى غزة لأنه ليس من مصلحة أحد وجود المشكلات، والاستقرار مصلحة للجميع. ● كيف تنظر للمواجهات الجارية بين الجيش والتنظيمات الإرهابية فى سيناء؟ هذه الأنفاق التى أسميها «ينابيع الشر»، يدخل منها كل ما هو غير شرعى، ودخلت منها العناصر الإرهابية سواء أرسلتهم حماس أو إسرائيل، بغرض إظهار أن سيناء تستدعى التدخل الدولى بسبب عدم الاستقرار فيها. وأرى أن التعامل مع العناصر المسلحة يكون بالتصفية خطوة بخطوة كما يفعل الجيش الآن، أما العناصر أو المجموعات التى تحمل فكرا متطرفا فهؤلاء يحتاجون توعية. مشاهد من الحرب ● منذ نكسة 1967م مرورا بمعارك الاستنزاف وحتى انتصار 1973م .. ما الذى تتذكره من مشاهد تلك السنوات؟ هذه الأعوام الستة من الصراع العسكرى كشفت أصالة الإنسان المصرى، وأنا عشت مع أبناء الجيش من المجندين لأربعين سنة فى الخدمة، ولمست أنهم وقت الشدائد يكونون رجالا بالمعنى الحرفى للكلمة. أول المشاهد التى أتذكرها حين صدر لنا أمر الانسحاب فى 1967م وكنا حينذاك فى قوات الاستطلاع وموقعها يكون فى مقدمة القوات، وقالوا لنا إن قوات الاستطلاع يجب أن تكون آخر من ينسحب حتى لا يعرف العدو بأمر الانسحاب، وبدأ كل واحد منا يعود من موقعه إلى منطقة القناة، وضرب الجيش الإسرائيلى مدرعة لمجندين فى منطقة «الحسنة» فدمر مقدمتها واحترق الموتور فيها، وكانت تحمل فوقها المدفع الرشاش وجهاز اللاسلكى. لا أنسى أبدا العريف مجند عبدالقادر محمد عبدالقادر، هذا الرجل الصعيدى الذى لم يتخل عن سلاحه فى تلك اللحظة رغم أن أحدا لم يكن ليسأله عنه بعد الانسحاب، فقد قام عبدالقادر وزميل بتفكيك المدفع الرشاش وجهاز اللاسلكى من فوق المدرعة وحملوهما معا وسارا بهما مسافة تمتد لحوالى 120 كيلومترا حتى وصلوا لمنطقة القناة، وهذا المشهد يقول إن المجند المصرى كان معتزا بسلاحه رغم ما حدث. أتذكر أيضا كلام الإسرائيليين حين قالوا عن مصر إنها أصبحت جثة هامدة بعد 1967، ورد فعل جيشنا المصرى، وعملية إعادة بناء هذا الجيش، وأتذكر بالخير هنا الفريق محمد فوزى رحمه الله الذى أدى دورا كبيرا فى هذا الأمر. حرب الاستنزاف ماذا عن حرب الاستنزاف التى وقعت فى أعقاب الانسحاب من المواجهة فى 1967؟ فى حرب الاستنزاف نجح الجندى المصرى فى نقل حاجز الخوف من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، فقد استمرت هذه الحرب لمدة ألف يوم، كان منها خمسمائة يوم قتالا فعليا مع العدو الإسرائيلى، وكان قتالنا معهم يحمل رسالة صريحة بأنهم ما داموا عندنا فسيدفعون خسائر يومية، لدرجة أن الإسرائيليين أنفسهم هم الذين طلبوا من الأمريكيين التدخل لوقف اطلاق النار فيما عرف بمبادرة روجرز فى أغسطس عام 1970. وكان من نتائج حرب الاستنزاف، وبحسب الإسرائيليين، مقتل ألف من جيش العدو وجرح أكثر من 4 آلاف وخمسين طيارا، وتدمير مئات الأسلحة والعتاد، والصحيح أن حرب الاستنزاف حققت خسائر للإسرائيليين ضعف هذه الأرقام المعلنة من جانبهم على الأقل. ومن المهم أيضا للتدليل على عظمة حرب الاستنزاف التذكير بما قاله عيزرا وايزمان وهو تولى منصب وزير الدفاع الإسرائيلى بعد ذلك، حيث قال إن حرب الاستنزاف هى أول الحروب التى هزمت فيها مصر إسرائيل. الاستطلاع خلف الخطوط ● حدثنا عن عملية الاستطلاع خلف خطوط العدو .. كيف كانت تتم؟ كنت أخدم فى الجيش الثانى الميدانى، ودائما الأطراف التى كانت تعطينا الأسلحة، ترفض أن تعطينا أجهزة ذات تقنية فنية عالية تساعدنا فى الحصول على المعلومات عن إسرائيل، كانوا يمنحوننا طائرات ومدافع لكن يرفضون منحنا طائرات استطلاع أو رادارات وكاميرات بعيدة المدى. فالأسلحة ليست تجارة فحسب ولكن لها بعد سياسى، ونقص المعلومات فى الحروب يجعل إمكانياتك محدودة، ولذلك فقد عوضنا نقص أجهزة جمع المعلومات، بعمليات الاستطلاع خلف خطوط العدو الإسرائيلى، وكأننا نقول لمن رفضوا منحنا أجهزة لجمع المعلومات: طالما رفضتم منحنا كاميرات نرى بها العدو لمسافة مائة كيلو متر فسنرسل مجندين يرون تحركات العدو بأنفسهم. وعمليات الاستطلاع خلف خطوط العدو، خبرة سوفيتية نفذوها فى الحرب العالمية الثانية، وقد نقلناها منهم. فى ديسمبر 1969م تمكنت فرقة استطلاع اللواء 117 من عمل كمين شرق الإسماعيلية لدورية إسرائيلية، وأسروا قائدها وكان ضابطا برتبة نقيب ثقيل الوزن وحمله نحو خمسة جنود حتى عبروا به القناة فى الظلام فقد كان الكمين يبدأ مع آخر ضوء شمس حتى تتم العودة ليلا. وكان هذا الأسير هو أول ضابط من القوات البرية الإسرائيلية يتم أسره لدينا، وكان اسمه دان أفيدان شمعون، وكان قد أصيب ببعض الشظايا بسبب الاشتباك فذهبنا به لمستشفى «القصاصين» حتى لا تحدث له مضاعفات قبل نقله من الجبهة إلى القاهرة، وقد كنت مسئولا عن عملية نقله للقاهرة، فحرصت على متابعته بدقة حتى تتم معالجته لدرجة أننى دخلت عليه غرفة العمليات من أجل ذلك. الطريف أننا اكتشفنا أن الاسرائيليين يعملون ب«الكوسة» (المحسوبية) فى تبادل الأسرى، فحين تمت عملية تبادل الأسرى بعد انتصارنا فى أكتوبر 1973 وجدنا اسم دان أفيدان شمعون على رأس قائمة الأسرى الذين تطلب إسرائيل مبادلتهم، وذلك لأن له صلة قرابة برئيسة الوزراء الإسرائيلية حينذاك جولدا مائير! عيون الجيش فى الحرب أرسلنا عشرات المجموعات على امتداد سيناء من الشمال الى الجنوب الى الشرق وكانوا جميعا فى العشرينات ليتابعوا تحركات القوات الاسرائيلية، وكانوا يرتدون الزى العسكرى، فى مناطق بعيدة عن الإسرائيليين حيث كانوا يبحثون عنهم بالاتصال اللاسلكى واشاراته وبالطائرات ومن الدوريات، وكانوا يرتدون الزى العسكرى لأنه يوم ما يتقبض عليهم وهم فى عمق سيناء سيتم معاملتهم كأسرى حرب لكن لو كانوا يرتدون ملابس مدنية كانت إسرائيل ستعاملهم حال ضبطهم كجواسيس. وحققنا نسبة نجاح فيها أكثر من 85% فى حين أن الروس قالوا لنا لو نجحتم بنسبة 50 % سيكون نجاحا باهرا. حتى ندخل مجموعة من الجنود لمسافة أكثر من 100 كيلو داخل سيناء، كان لابد أن نعمل بالليل، وطائرات الهيلوكوبتر التى كانت لدينا وقتها كانت تعانى صعوبات فى العمل الليلى، كان معظم ما لدينا من طائرات روسى الصنع، بدون أجهزة رؤية ليلية، وكانت تعمل حين يكون ضوء القمر ساطعا، كنا نمسك خريطة فى الطيارة، وننظر فى الخريطة وفى الطريق، وعلى ارتفاعات منخفضة حتى لا يتم كشفنا بالرادار، عملنا انجازا لأول مرة، قلنا افرض الطيار دخل ومقدرش ينزل، دربنا شبابنا على فرقة مظلات، وجهزنا الهيلوكوبتر للقفز بالمظلات لأول مرة فى التاريخ العسكرى. ولم يكن لدينا كقوات استطلاع أجهزة رؤية ليلية، كنا نستطلع بنظارة الميدان العادية، فكنا نريد معرفة ما يجرى على الضفة الشرقية للقناة، فطلبنا أجهزة رؤية، فجلبوا لنا جهاز رؤية ليلية من أوروبا، جهاز واحد وبدأنا تجريبه، عند منطقة القنطرة، وصلنا للمنطقة وتسللنا حتى حافة القناة ودخلنا غرفة مهجورة وتسللنا خلف حائط، وفتحنا النافذة لنشاهد العدو، وما إن نظرت فى المنظار، فوجئت بالمجندين الاسرائيلين يشيرون لنا بأيديهم يقولون «اننا نراكم». معارك أربعة ● ما أبرز المعارك التى شهدتها ما بين 1967 و1973؟ خلال ست سنوات من عام 1967 وحتى عام 1973 خاض المصريون أربعة معارك، الأولى كانت معركة إعادة بناء الجيش، والثانية معركة نقل الخوف إلى الضفة الشرقية كما قلت من قبل أثناء حرب الاستنزاف، ومعركة بناء حائط الصواريخ وهى المعركة التى شهدت كسر الذراع الطولى لإسرائيل وهى الطيران. كان الطيران المصرى دفاعيا، بحيث تظل الطائرة فى الجو لمدة لا تزيد على أربعين دقيقة، وحمولتها لا تزيد على طن واحد تسليح، أما الجانب الإسرائيلى فقد كان لديه طيران هجومى، كانت لديهم طائرات «فانتوم» الأمريكية، و«ميراج» الفرنسية، تطير لثلاث ساعات أو أكثر وتصل حمولتها من التسليح لستة أو سبعة أطنان. وبرزت عظمة ملحمة أكتوبر فى أننا تغلبنا على ضعف الإمكانيات لدينا بعبقرية وإصرار الإنسان المصرى، فقد قمنا بتشكيل قوات دفاع جوى تجابه الطيران الإسرائيلى، وأنشأنا حائط الصواريخ على امتداد قناة السويس، وشارك فيها مدنيون وعسكريون، وشاركت فيها شركات مدنية كثيرة، واستشهد خلال إنشائها العديد من المدنيين والعسكريين وهم يبنون قواعدها، ونجحنا فى بناء هذه الحائط التى كسرت ذراع إسرائيل الطويلة، وكانت كثيفة ومتشابكة بشكل لم يسمح بالاختراق حيث كانت تضم العديد من كتائب الصواريخ التى غطت الجبهة بالكامل. أما المعركة الثالثة فهى معركة الذكاء المصرى وهزيمة العقول الإسرائيلية والأمريكية بحيث استطعنا خداع أجهزة مخابراتهم، وأوجدنا لديهم شعورا بل يقينا بأنه ليس فى مقدور الجيش المصرى تحرير الأرض، مما جعل عنصر المفاجأة الاستراتيجية حاسما فى النصر. وأود فى هذه النقطة الإشارة إلى تقرير للأمم المتحدة صدر قبل عدة سنوات عن معدلات ذكاء المجتمعات والدول، ووجدت فيه أن مصر حصلت على أعلى تقييم، لكن إلى جواره عبارة تقول: «مستوى الذكاء المصرى عالى لكن يعيبه أنه ذكاء فردى غير موجه لصالح المجموع». وأقول إننا حين وظفنا هذا الذكاء لصالح المجموع استطعنا الانتصار. رابع هذه المعارك هى معركة أكتوبر المجيدة، تم إطلاق النيران على الإسرائيليين بشكل أثار الرعب لديهم وكنا نضرب فيها عشرة آلاف دانة مدفع فى الدقيقة والواحدة، وفى خلال 8 ساعات كان فيه 80 ألف مقاتل مصرى على الضفة الشرقية، وتصدينا لكل هجمات الدبابات الإسرائيلية وتم تكبيدهم خسائر فادحة جعلتهم يستغيثون بالأمريكان وقالوا لهم «الحقونا»، تم تدمير من 400 إلى 500 دبابة وأكثر من مائة طائرة فى الحرب. ● هل يتناسب الموقف الإسرائيلى المهزوم مع الاتفاقيات التى وقعناها معهم بعد النصر؟ أفهم مغزى سؤالك، لكن دعنى أذكرك بقول هنرى كيسنجر بعد أربعة أيام من الحرب حيث قال: «إسرائيل هزمت استراتيجيا مهما يحدث بعد ذلك» وقال الرئيس الأمريكى نيكسون: «أمريكا لن تسمح لإسرائيل بأن تخسر الحرب»، فالصراع مع إسرائيل مرتبط بمصالح القوى العظمى وليس ثنائيا بيننا وبينهم فحسب، وفى هذه المرحلة كان هناك وفاق بين السوفييت والأمريكان ولم يكن الطرفان يريدان لمصر أن تحارب وتستعيد أرضها، وحين فاجأنا العالم بهذا الانتصار، كان لابد أن تكون لهذه الحرب نهاية وهذه النهاية لم تكن فى يدك وحدك، فروسيا وأمريكا اتفقتا على إيجاد وضع يسمح بالتفاوض، فلا يمكن التفاوض بين منتصر ومهزوم، ولذا فقد زودت أمريكا إسرائيل بأحدث الأسلحة وبلغ وزنها ستين ألف طن تسليح، فى حين أرسل لنا السوفييت ستة آلاف طن تسليح مكونة من أسلحة ومعدات ليست لها الأسبقية الأولى، وكان الأمريكيون يزودون إسرائيل بالمعلومات كاملة عنا، بينما كان الروس يقولون لنا كلمتين ثم يمتنعون، وهذا الوضع أوجد وضعا يسمح بالتفاوض بكل تأكيد.