على الرغم من الأحداث الدامية التى تشهدها مصر فى الأونة الحالية وآثارها العميقة على الاقتصاد المصرى وبالأخص من خلال التأثير المباشر على القطاعات الرئيسية وعلى رأسها قطاع السياحة، وكذا التأثير على الإنفاق العام للحكومة بالزيادة لتمويل الجهد الأمنى والعسكرى، والتعامل مع تداعيات هذه الأحداث فيما يتعلق بالبنية التحتية المدمرة. فإن حكومة الدكتور الببلاوى التى تم تشكيلها عقب ثورة الثلاثين من يونيو بلا أدنى شك فى موقف أفضل مقارنة بالحكومات التى سبقتها، على الأقل من الناحية الاقتصادية. فالحكومة الجديدة تبدأ عملها مدعمة بحزمة من المساعدات الاقتصادية تقدر بنحو 12 مليار دولار مقدمة من كل من المملكة العربية السعودية (5 مليارات دولار)، والإمارات العربية المتحدة (4 مليارات دولار)، والكويت (3 مليارات دولار). وتأتى 50% من قيمة تلك المساعدات فى شكل منح نقدية لا ترد وأخرى عينية فى شكل مشتقات البترول والغاز. وبطبيعة الحال من المفترض أن يكون لتلك الحزمة، التى قد تتزايد فى ضوء مواقف حكومات الدول الثلاث من تطور الأحداث فى مصر، آثارا إيجابية مباشرة على الوضع المالى والاقتصادى الكلى لمصر على النحو التالى: أولا: ستؤدى الودائع ذات الفائدة الصفرية والتى تشكل نحو 6 مليارات دولار من إجمالى حزمة المساعدات الاقتصادية المقدمة لمصر، إلى زيادة الاحتياطات من النقد الأجنبى بشكل ملحوظ، وهو ما ظهر جليا مع إعلان البنك المركزى المصرى فى بداية هذا الشهر زيادة الاحتياطات إلى 18.8 مليار دولار مقارنة ب14.9 مليار دولار فى نهاية يونيو الماضى. إن تلك الزيادة فى الاحتياطات الأجنبية ستخفف بدورها من الضغط على الجنيه المصرى فى مواجهة العملات الأجنبية، كما ستسمح للبنك المركزى المصرى بالعمل بكفاءة على تلبية احتياجات السوق من النقد الأجنبى. يؤدى ذلك بالتبعية إلى استقرار قيمة العملة، الحد من التعامل فى السوق السوداء للصرف الأجنبى، تخفيض العجز فى ميزان المدفوعات، وتقليل تكلفة الإنتاج والاستثمار فى مصر. ثانيا: ستساعد المنح النقدية والعينية التى تمثل نحو 6 مليارات دولار من إجمالى حزمة المساعدات الاقتصادية العربية، على تخفيض عجز الموازنة بما يقرب من 20%، هذا بافتراض دقة تقديرات الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2013/2014، وهو ما سيمكن الحكومة من تقليل اعتمادها على الدين العام والذى يمثل حاليا نحو 85% من الناتج المحلى الإجمالى. وفقا لذلك، من المتوقع أن تتحسن المؤشرات المالية للدولة، كما ستنخفض مدفوعات الفوائد التى تشكل نحو 27% من إجمالى الإنفاق الحكومى. ثالثا: يؤدى الحصول على منتجات بترولية تعادل قيمتها 3 مليارات دولار من دول الخليج الثلاث إلى دعم قطاع الطاقة فى مصر فى الأجل القصير، فالحكومة لن تضطر إلى تحمل تكاليف النقل والتأمين التى تتحملها فى حالة استيراد الكمية المعادلة لتلك المنتجات. كذلك، فإن هامش من العبء الذى تحملته الحكومة المصرية والبنك المركزى المصرى من أجل توفير النقد الأجنبى لاستيراد المنتجات البترولية خلال العامين الماضيين سيتلاشى، بالإضافة إلى ذلك، سيؤدى اختفاء أزمات الطاقة (أو على الأقل الحد منها) إلى تقليل تكلفة المعاملات بالنسبة للأفراد من حيث توفير الوقت والحد من التعامل فى السوق السوداء، وهو ما سينعكس على تحسين بيئة الأعمال فى مصر. إن تلك الآثار الموجبة والمتوقعة من المساعدات الاقتصادية لمصر تقوم على افتراض أن الحكومة الجديدة ستعمل وفقا للمدخل التقليدى القائم على استخدام المساعدات الاقتصادية لتحسين الوضع المالى الكلى للدولة، تحسين المؤشرات المالية، وخفض عجز الموازنة أو على الأقل العمل على عدم تجاوزه لتقديرات الموازنة والبالغ 195 مليار جنيه مصرى. ومع ذلك، قد تلجأ الحكومة إلى تبنى خيارات أخرى للسياسة المالية أكثر جرأة بهدف تعظيم الاستفادة من تلك المساعدات بما يتجاوز الإطار التقليدى. أحد الخيارات الممكنة فى هذا المجال هى استخدام المنح النقدية لدعم الاستثمارات الحكومية بدلا من سد العجز فى النفقات الجارية، حيث لم تتمكن الحكومة خلال العامين السابقين سوى من تنفيذ 60% فقط من الاعتمادات المخصصة للاستثمار. وترجع الفجوة بين تقديرات الموازنة والتنفيذ الفعلى للاستثمارات إلى نقص الموارد المالية من ناحية وغياب الأمن والاستقرار من ناحية أخرى. ومن ثم، فإنه من الممكن توجيه نسبة كبيرة من المنح النقدية لتمويل مشروعات استثمارية حكومية. سيمكن ذلك الحكومة من حفز الاقتصاد وتشجيع القطاع الخاص على ضخ الأموال، كما سيساعد ذلك على خلق فرص عمل جديدة. ولعل العمل على تحقيق هدف تنفيذ 80% من قيمة الاستثمارات الحكومية المقدرة فى موازنة 2013/2014 والبالغة 63.6 مليار جنيه مصرى قد يكون نقطة انطلاق جيدة. تتمثل أحد الخيارات أو البدائل الأخرى فى استخدام جزء من المنح النقدية لدعم الشركات الخاصة التى أشهرت إفلاسها خلال العامين السابقين، أو تلك التى تعانى من صعوبات مالية حاليا، ويكون ذلك من خلال نظام للدعم المالى من خلال السلف المؤقتة أو ضمان الائتمان لدى البنوك أو القروض الميسرة. سيمكن هذا الخيار تلك الشركات من استئناف نشاطها واستعادة قدراتها التشغيلية والاستثمارية، وهو ما سينعكس بالتبعية على سوق العمل من خلال استيعاب جزءا من القوة العامة العاطلة فى الأجل القصير، كما سيساهم فى زيادة الناتج المحلى الإجمالى. ويتطلب هذا الخيار قاعدة بيانات شاملة للشركات المتعثرة وتحليلا جادا لطرق الدعم التى يمكن أن تقدمها الحكومة فى هذا المجال دون الإخلال بقواعد السوق. أما الخيار الثالث، فيتمثل فى استهداف أحد قطاعات الخدمات الأساسية كالتعليم أو الصحة من خلال زيادة الإنفاق العام بشكل مؤثر ومخطط على هذا القطاع. سيؤدى ذلك إلى تحسين أداء أحد القطاعات التى تحظى بطلب كبير من جانب عموم المواطنين. ونظرا لأن المستهلك الرئيسى للخدمات الأساسية التى تقدمها النظم الحكومية للتعليم والصحة هم فى الغالب من المنتمين لطبقات الدخل المنخفضة والمتوسطة، فإن الإنفاق على تلك القطاعات الخدمية سيسهم فى تعزيز جهود الحكومة فى تنمية الموارد البشرية كما سيكون له انعكاسا سياسيا نظرا لكون العدالة الاجتماعية أحد المطالب الرئيسية لثورة يناير 2011 وموجتها الثانية فى يونيو 2013. ولا تعد الخيارات الموضحة أعلاه الخيارات الوحيدة الممكنة لتعظيم المنافع المتوقعة من حزمة المساعدات الاقتصادية العربية لمصر؛ فهناك خيارات أخرى خارج الإطار التقليدى والتى يمكن اقتراحها فى هذا المجال والتى تتضمن على سبيل المثال لا الحصر الحوافز أو الإعفاءات الضريبية، ودعم الصادرات، والشراكة مع القطاع الخاص، وتطوير النظم المؤسسية للتحول التدريجى من الدعم العينى إلى الدعم النقدى. وفى جميع الحالات، على الحكومة الجديدة العمل بشجاعة وتدريجيا لحفز الأثر الاقتصادى لأدواتها المالية، وإدراك أن «تجنب المخاطر» والتوجه المحافظ قد لا يكون الخيار الأكثر حكمة فى بعض الحالات، ولاسيما فى أوقات الأزمات.