على بعد آلاف الكيلومترات، وتحديدا فى قرية دوين داخل إقليم كردستان العراق، وقف المخرج على بدرخان، الذى كان ضمن وفد فنى مصرى يزور الإقليم، يتأمل فى جغرافيا المكان وكأنه يتذكر شيئا ما، وبعد دقائق من الصمت أبلغ رفاقه بالوفد أن تلك القرية هى مسقط رأس القائد العظيم صلاح الدين الأيوبى، ولسان حاله يقول «كم نحن فى حاجة إلى قائد مثله يوحد صفوفنا»... بدرخان الذى يشعر بحنين خاص تجاه كردستان التى ينحدر منها أجداده، تحدث إلى «الشروق» من قرية دوين عن السينما وحالها بكياناتها الكبرى التى أوشكت على الاختفاء من المشهد فى ظل ثورة شبابية تصر على أن تصل أعمالها التى تحمل أفكارها ورؤيتها للواقع والمستقبل، قبل أن يتطرق المخرج الكبير إلى ما تعلمه من الفنان أحمد زكى والدرس الكبير الذى تلقنه من زوجته الراحلة سعاد حسنى فى الفن والحياة، كما غاص كذلك فى رحلته الطويلة، ولم ينس أن يتحدث عن مصير جيله من المخرجين. كان المشهد المصرى حاضرا فى عقل ووجدان المخرج على بدرخان ونحن نقف فوق أعلى تبة بمسقط رأس صلاح الدين وقال المخرج الكبير: رغم أزمة الوضع الذى نمر به وحالة الاضطراب واللخبطة، إلا أن المشهد إيجابى للغاية، ومن بين الإيجابيات التى لم يستطع النظام ولا حكومته استيعابها، هى أنها لا تستطيع أن تفرض علينا وضعا، فالشعب لم يعد يشتغل عندهم، بل هم الذين يجب أن يدركوا أنهم يشتغلون عند الشعب، وأن هذا الشعب يملك أن «يشيلك» كما يريد إذا كنت لست على قدر المسئولية.. هم لم يفهموا ما الذى يحدث ولم يستوعبوا أن هناك ثورة.
• وهنا سألته، هل نحن بحاجة لصلاح الدين آخر؟
نحن نحتاج لقيادة، فشباب الثورة فى حاجة ماسة الآن لقيادة يفرزونها بأنفسهم ويلتفون حولها، حتى يحققوا هدفهم، ويضعون أولويات؛ لأن هناك خشية من أن تسود الفرقة، إذا كانت الأحزاب التى بلا قيمة لها قائد ومتحدث، أتمنى أن تسير الثورة فى الطريق الصحيح بدلا من العشوائية.
• ترى ما هى مواصفات هذا القائد؟
أن يتقن هدفه، لديه من الأخلاقيات ما يؤهله لأن يكون إنسانا محترما يتسم بالقيادة والحسم والحزم، لديه أصول دين، يعرف كيف يتعامل مع الخصم، يؤمن بعقيدة مليئة بحقوق الانسان مثل صلاح الدين الذى لم يكن ماشيست الجبار ولا هرقل، وللأسف نحن مبهورون بالغرب وياليتنا نفهمه، مثلما يفهمنا هو، نحن لا نريد أن نلعب سياسة، عايزين نلعب ثورة لا سياسة، وألا تحيد بالثورة فى سكة السياسة.
• فى رأيك الثورة طالت السينما المصرية أم لا؟
سوف تطولها رغم أنف أى أحد، فالشباب بدأ اليوم يفكر بشكل مختلف فى الموضوع والانتاج، وكما تعرف أن رأس المال جبان وتراجع للخلف بالفعل، وهنا لجأ الشباب للبحث عن حلول جديدة بدلا من الاحتياج للكيانات الاحتكارية السابقة والتى لا نريدها أصلا.
• لكن هذه الكيانات الاحتكارية ما زالت موجودة ومسيطرة ولم تعط الفرصة للشباب لعرض أفلامه؟
هذا المفهوم انتهى، فاليوم تُعرض الأفلام على اليوتيوب وفى الشارع.. فقد عرفنا طريق الميادين والشوارع.. عرفنا كيف نصل للناس.. فالشباب ليس هدفه أن يكون مليونيرات، لكن أن يعبر عن نفسه وكيانه.. لكن الآخر الذى لا يهمه سوى تكويش فلوس.. الشباب هدفه أن يرى الناس كيف يفكر ورؤيته للحياة والحكم.
• لكن أليست هذه الأفكار فى حاجة لدور عرض كى تصل لشرائح المتفرجين؟
لا، بل هى فى الحقيقة فى حاجة إلى الشارع وإلى الثورة، فالفن هو الآخر فى حاجة إلى أن يتفجر بطريقة ثورية وليست بطريقة رأسمالية مؤسسية احتكارية، لأنها ضد فكرة الثورة.
• كيف يكون ذلك، والأعمال التى يصنعها المخرجون الشباب الجديد عيونهم دائما على المهرجانات الخارجية وليس الجمهور المحلى؟
لا يهم، فإذا كان الكبار يفعلون ذلك، فالشباب يفكر بطريقة مختلفة، فالأفضل من الجوائز أن تصل للناس، فالمهرجانات ما هى إلا شيء تجميلى، فالعمل الناجح هو الذى يصل للناس.
• لكن طريق الوصول للناس له مشكلات كعدم وجود موزع يمنحهم الفرصة، كما أن أفكار هذا الجيل لا تصل إلى المشاهد؟
كل هذا يمكن تجاوزه، ويجب على أى مخرج ألا يستنسخ نجاح الآخرين، والروشتة الحقيقية هى: فكر بجدية.. فكر فى قضية تشعرك بالقلق، ابرز إحساسا جميلا وأهلا وسهلا بك فى عالم الإبداع، وإننى أصف ما نعيشه الآن بالمراهقة السياسية والفنية، هذه ليست سينما، والبطل اليوم مفهوم مختلف، رغم أنه لا يزال ما يسيطر على الأذهان حتى الآن هو البطل الأمريكانى، والمواطن الذى يشقى طول اليوم ويجرى وراء الأتوبيس بحثا عن توفير الطعام لأسرته، هذا هو البطل اليوم، الإنسان البسيط هو البطل، وأنت كفنان يجب أن تكون ملتزما بالبساطة والسهولة لتوصل رؤيتك السياسية.
• هل أبطال الجيل الجديد من أفلام الشباب ليسوا هم أبطال الشارع المصرى الذين تقصدهم؟
لا، ولكن من الممكن أن ترى نموذجا مثل اللمبى فى الحياة، ولكن ليس هذا هو النموذج الوحيد فى المجتمع، نحن نريد أن نضحك وأن يكون أيضا هناك فارس، فيكون هناك ضحك معقول ومقبول، فيلم لا تخجل أن تراه الأسرة، فالفن رقة ومشاعر.
• إذن هل ترى أن السينما المصرية تفتقد الآن إلى نموذج المواطن العادى؟
نعم، هذا النموذج قليل جدا والسبب فى ذلك أن الدخلاء على الفن أصبحوا كثيرين، يتعاملون مع السينما كسبوبة، والسينما من وجهة نظرهم مهنة لا تتطلب الكثير من الكفاءات.
• هل معنى حديثك أنك استسلمت لألا تكمل المشوار؟
لا، من قال ذلك، أن أعمل على «تفريخ» أجيال جديدة ولكن أنا لا أنتج، وليس لى إنتاج والسوق فرضت مفاهيم غريبة، وكمخرج له تاريخ احترم نفسى، وربما تكون ظروفى أجمل من غيرى، فأنا قادر على تغطية احتياجاتى، لكن غيرى ليس قادرا، أنا بطل للظروف التى تساعدنى، لكن غيرى يكافح ليفتح بيته ولن أنكر أننى متضايق لعدم تواجدى على الساحة ولعدم وجود أعمال لى يشاهدها الجمهور.
• وما هو شكل المشاريع التى ما زلت تحلم أن تقدمها للناس؟
هناك مشاريع كثيرة، لكنها وقفت إنتاجيا، والمشاريع كل يوم تتغير بأفكارها جراء تجدد الظروف والموضوعات والقضايا.
• وما هى حكاية مشروع فيلم «الملا مصطفى»؟ وهل ترى أن وقته مناسب؟
هو مناسب جدا لأن يؤرخ لنضال شعب مقهور يروى حكاية الأحرار فى كل مكان، النضال الذى لا ينتهى، وهذا العمل يشحن المشاهد ويبعد عنه روح الإتكالية والأنانية والكسل، به عبرة للمستقبل، فهذا العمل تأريخ لفترة مهمة من الممكن أن تكون دراستها عنصرا فاعلا فى تغيير أشكال المعادلة، وهى أيضا قضية تخص الشعب الكردى مجهولة لدى الكثيرين، وحماسى لهذا الفيلم ينبع من كونى أنتمى لأصول كردية.
• ولماذا وقفت الخطوات العملية لتنفيذ هذا الفيلم؟
لا أعرف، ربما الظروف الإنتاجية، والتى أتمنى أن تجد طريقها لتقديم هذا العمل وقد وعدنى حكم إقليم كردستان بإعادة النظر فى الموضوع وهو يعتبره مهما للغاية.
• بمنتهى الصراحة.. هل عرض عليك أحد فى مصر «شغل»؟
ابتسم ثم قال: واحد قال لى «أنا عايزك تتطور عشان تشتغل»، احنا بصراحة لا نستطيع أن نعمل الفيلم إللى نريده، لكننا لا نستسلم.
• عندما يسيطر على الساحة الإنتاجية السينمائية شخص واحد مثل السبكى ما الذى يدور بينك وبين نفسك؟
الحقيقة أنه هو المنتج الوحيد الأكثر إيجابية وحبا للسينما وقدرة على المغامرة.
• رأيك مفاجئ بالنسبة لى؟
لماذا، هذا هو الواقع هناك من يخاف ويدارى ويعيب على الآخر، ويقول ده بتاع لحمة، لا، هو الآن بتاع سينما.. وأسأل الآخرين: آنتم بتوع إيه؟!.
• لو عرض عليك السبكى فيلما.. هل ستعمله، وبمواصفاتك؟
هو أحسن منتج فى مصر، ويعرف أننى لن أحقق له ما يريد.
• لكن أكيد بداخلك حلم بصناعة فيلم الآن، موضوعه جاهز أم ستنتظر وضوح صورة المشهد بكل جوانبه؟
ممكن يكون لدى موضوع فيلم، لكن لا أعرف أعمله ولا المنتج، لأنك مرتبط بنظام سوق من مواصفات نجوم محددين أمامك فى المشهد، افرض أن بطلك كبير فى السن أو طفل صغير، فهذا يكون صعبا إنتاجيا، هناك مفاهيم وقواعد أفرزتها السوق ولا أن تفعل شيئا يأتى الناس إليها.
• أنت طوال رحلتك تتحدى السوق?
مش قوى، لو معاك أسماء كبيرة، المنتج سيجرى وراءك، فهو يريد نجم الشباك.
• من تراهم نجوما اليوم؟
أحمد حلمى، ومكى وهنيدى وعادل إمام ويسرا.
• ممكن تشتغل مع نجوم الكوميديا؟
هم فنانون جامدون، لكن ربما يأتى إليهم سيناريوهات تعبانة.. هم يؤدون مهمتهم جيدا، ويتحملون كل أعباء مفردات العمل حتى لو ضعيف ويعدون بها.
• لو فكرت فى عمل فيلم يرصد فى خلفيته المشهد الإخوانى فى السياسة.. ما تكون مواصفاته؟
لابد أن أستوعبهم أولا، لأننى لم أفهمهم، وقد قرأت كتابا اسمه «جنة الإخوان» لسامح فايز، يروى تجربته الشخصية مع الجماعة، منذ أن كان عمره 8 سنوات، وهو كتاب به نقطة مهمة، وهى أنت جزء من جماعة شخصيتك تتوه فيهم، لو فكرت فى شخصيتك بمفردك ستكون خارج الجماعة، وأنت لا تستطيع أن تخرج لأنك جزء منهم، حيث ستشعر بالغربة والانعزال، وبالتالى ستحتاج للجماعة.. هذه رؤية مختلفة تصلح لعمل سينمائى لكننى لا أعرف كيف سيتم عمله.
• كيف ترى فيلم «الجوع»؟
أكثر الأفلام التى عملت عن الحرافيش وعبرت عنهم بحق، فقد عملت الرواية وأنا ملم جيد بعالمها، وحافظت على الفكرة الأساسية.
• وأهل القمة؟
كان استشرافا بالمستقبل.
• والكرنك؟
نقلة مهمة فى حياتى، وهذا الفيلم كان له تداعى سياسى على أرض الواقع، فصلاح نصر قام برفع قضية على الفيلم، والمحكمة أحضرت قضاة ليناقشوا الفيلم، وهو أول عمل من نوعيته يظل فترة طويلة فى دور العرض، وكان به مجموعة كبيرة من الفنانين أحبهم كثيرا.
• راض بنسبة كام فى المائة عن رحلتك؟
أنا لا انظر ورائى، ما حدث كان لا بد أن يحدث كما هو، أنا لم أقصر، لكن الظروف التى أنت بها فى الوضع الراهن تحتم عليك واقعك.
كثيرون قالوا لى «أنت محبكها قوى.. كان زمانك مليونير»، وقلت لهم ما قدمته مقتنع به تماما.
• من أكثر ممثل أحببته؟
أحمد زكى، كان هناك تفاهم كبير بيننا، وهو تفاهم مهم، هو يعنى أن تكون تعرف أحاسيسه وخلفياته، وأن تتحدث معه فى أمور يستحضرها من حياته، هو كان يعرف من العين ما الذى تريده، أحمد حقق لى كل هذه المعادلة فى أعمالنا معا، كان يقترح حاجات كثيرة وجميلة فى الأداء وأعطيه الفرصة، فهو وسيلتى كمخرج.
• وسعاد حسنى؟
صمت طويلا ثم أجاب: نفس الحكاية بالفعل، فقد تعلمت من خلالها كيف أتفاعل مع الممثل، وقد تحملتنى كثيرا، لأننى إنسان صعب، وخلال وجودنا معا بدأت أراعى هذه الحكاية، وأدركت وأنا معها كيف أعطى لكل ممثل الفرصة والطبيعة الخاصة به، وأن احترم الوقت الخاص الذى يأخذه الممثل فى التحضير لشخصيته بينه وبين نفسه.. وإذا كان يحتاج أن يعمل شيئا قبل التصوير، هناك لأن يصمت فترة ويجلس مع نفسه.. وسعاد حسنى كان طبيعتها أن تدخل البلاتوه وتتحرك بين مفرداته.. تلمس الأشياء.. تعيش مع الأركان تتلمس الحوائط والجدران والاكسسوارات لكى تكون ألفة معها، وكنت أتركها تعيش بعد أن استوعبت أنها بذلك كانت تشتغل وعرفت كيف يدخل الممثل فى مودة، وألا أقلقه أو أحبطه.
• هذا الدرس الذى تعلمته من سعاد حسنى فى الفن..ماذا عن درس الحياة؟
هنا صمت المخرج الكبير وشرد طويلا نحو ساحة رحبة بين جبال وسماء.. وانتظرت إجابته ولم يرد !!