عندما كتبت مقالا يوم 13 نوفمبر الماضى تحت عنوان «الفلول فى حزب الدستور» لم أكن أرجم بالغيب أو أقذف حجرا على شجرة مثمرة، أو أصفى حسابات مع حزب غادرته بإرادتى واختيارى وأحتفظ باحترامى لكثير من أعضائه المحترمين. إن فى فمى ماء، وليس كل ما يعرف يقال، غير أننى لست فى حل الآن من القول إنى كتبت ما كتبت بناء على استغاثة من قيادات بالحزب زارتنى فى مكتبى مشحونة بهلع حقيقى على الحزب الذى تأسس لاحتضان جماهير ثورة يناير ويريد له البعض أن يتحول إلى حضانة لفلول الحزب الوطنى ودولة مبارك.
وبعد أن كتبت نالنى كثير من رذاذ البذاءة وسخائم الإساءة، كان أقلها أنى أشوه الحزب وأدعى عليه كذبا.
وها هى الأيام تثبت أن ما كشفته مبكرا كان الحقيقة ولا شىء سواها، ويدهشك أن ما كان يتم إنكاره وتكذيبه قبل شهور صار يعلن على الملأ الآن وبكل فخر، فى هذا التسابق المحموم من شخصيات ارتبطت بثورة يناير على تدليل الفلول واسترضائهم، وتطور الأمر من الاحتواء والاستيعاب إلى الاحتضان والعناق.. وكما قلت فى مقال الأمس إن السائد حاليا هو الإلحاح على شطب كلمة «الفلول» من معجم الثورة، أو اختلاق تعريف جديد فاسد لها.
وإذا كان من حق أى أحد أن يعتنق ما يشاء من أفكار ويتبنى ويحتضن ما يريد من مشاريع سياسية، فالمعيار ذاته من حق آخرين أن يظلوا متمسكين بجوهر ثورة يناير والبنية الأخلاقية والاجتماعية والثقافية لها، والجميع يعرفون أن ثورة يناير كانت ضد مبارك، نظاما وحزبا ومشروعا مجسدا للقبح والانهيار القيمى..
ويدرك الكل أيضا أن هذه الثورة كانت المتمم لفورات غضب واحتجاج شارك فيها كل ألوان الطيف السياسى كان يجمعهم عنصر واحد هو الإصرار على التخلص من نظام مبارك، ولذلك تأسست كيمياء الثورة على عناصر من اليسارى واليمينى والليبرالى والإسلامى، توحدوا ضد «المباركية»
ويذكر التاريخ أن المليون مواطن الأول الذى أصاب دولة مبارك بالتصدع كان قادما من حملة المليون توقيع على مطالب التغيير التى لا يستطيع أحد إنكار أن نحو ثلثى هذا الرقم جاء من حشد جماعة الإخوان المسلمين للتوقيع عليه.
ولذلك عندما يأتى أحد ليقصى الإسلاميين خارج المشهد، ويحولهم إلى أعداء ألداء بعد أن كانوا شركاء حميمين، ثم يقول إنه يكمل الثورة الأم فإنه هنا يكون فى خصومة مع أبسط قواعد المنطق السياسى السليم.
وإذا ذهب إلى ما هو أبعد ووضع بقايا دولة مبارك وأتباعه مكان شركاء الثورة الأصلية، فإنه هنا من حيث انتوى أو لم ينتو يكون فى حضن ثورة عكسية سالبة بصريح القول «مضادة».
إن الثورة ليست لعبة بوكر، كما أنها لا تعرف لغة المحترفين وأدواتهم، ولا تحتمل أن يتصور أحد أنه وحده الثابت «الجوكر» ومن حقه أن يغير ويبدل ويبعثر فى أوراق اللعبة كيف يشاء، فيستبعد هذا ويضم أو يحتضن ذاك فى الوقت الذى يريد.
الثورة للمصريين الذين آمنوا بها مثل النيل بالنسبة لشعوب والدول الشريكة فى مياهه، وإذا كنا نستهجن إقدام دولة على اتخاذ إجراءات انفرادية تحول مجرى النهر وتبيع مياهه العذبة لمن يكرهونه ويكرهوننا، فإن العبث بمجرى ثورة يناير واللعب بها من المنبع للمصب مستهجن بالقدر ذاته.
ومرة أخرى من حق أى أحد أن يجرى ما يشاء من تعديلات تكتيكية فى تحالفاته، ويمد ما يحلو له من خيوط وجسور، ويطمع أو يطمح فيما يعن له، لكن ليس من حق بعضهم أن يمنح نفسه حقا حصريا فى التحكم فى مياه نهر الثورة ويوزع الحصص على هواه.