لطالما أحببت الرسم على أوراق بحجم البطاقات البريدية، وكأن لوحاتى صفحات مستعارة من وردة أو من كراسة طفل، لفرط ما تربك روحى وألوانى المساحات الواسعة من الأبيض. الجدارية، مثلا، تدهشنى وترهبنى فى آن. لا أستوعب أبدا كيف يرسم البعض ما تعجز أذرعهم عن احتضانه. أحب علب الكبريت، والدمى التى بطول الأصابع الناحلة، ودفاتر وكتب الجيب، وكلّ ما تسعه شنطة سفر. إلى أننى ولدت على عتبة حرب فى عام 1974 فى بيروت، ووجدت نفسى كطفلة فى السابعة مجبرة على حزم وطن بخفة جناحين من حقيبة؟
ثمّ تكرّر المشهد ذاته، من مدينة إلى أخرى، فى محطّات رحلتى الطويلة المتقطّعة، ووجدتنى فى كل مرة أمام معضلة الأرض التى لا تطوى مثل قميص، والأماكن والبشر الذين أرغم على تركهم ورائى، والاكتفاء بتلويحة دامعة.
●●●
قد تبدو هذه المقدمة للوهلة الأولى بعيدة عن الواقع، لكنها فى صميمه. كيف نصلح ما أفسدته دهور من الفوضى والإهمال، فى بلاد بمثل هذه المساحات الهائلة؟ كيف نقطع الأبد الذى بين الماضى واللحظة؟ كيف نرمم مدنا ومجتمعات، ونمد جسورا جديدة، ونحن لا نبصر أفقا أبعد من ظلالنا؟ ليس هنالك أسهل من تلوين خارطة ورقيّة. يستطيع أى طفل أن يقوم بذلك، وببراعة. لكن التراب، التراب الذى لا يحصى، كيف نشيد أوطانه ونبنى إنسانه فى ملايين البشر؟
أجول فى شوارع باريس ولندن، وأفكر: هذه مدن استغرق بناؤها قرونا وأجيالا. كل من ساهم فى رفع حضارتها ولو بضربة معول، حلم بحجر يبقى من بعده، لا كشاهدة قبر، وإنما كشاهد على حياة. العابرون الذين أرادوا أعمارهم رايات لا يطالها وحل ولا زمن، فى مثل باريس ولندن، ترفرف أرواحهم وأعمالها عاليا، مظللة للحاضر وكائناته. أما فى بلادنا التعسة المسكينة، فهم يهدرون مثل أنهار عذبة فى رمال بلا ذاكرة. أستعيد صور القاهرةوبيروت، وسواهما من مدننا العربيّة، ويخيل إلى أن الحقائب المنهوبة على يد الحكام ورعيتهم ذات الأصابع الخفيفة أكبر مما تبقى للناس والبلاد.
ثم أفكر فى المهاجرين، خاصة أننا بتنا نسمع كثيرا عن الهجرة فى هذه الأيّام. ما الذى بوسع مهاجر أن يحمله فى حقيبته؟ هل تسع حقيبة شروق الأهرامات أو وردة الغروب العملاقة على امتداد النيل؟ هل تسع بحر بيروت وغابات وثلوج الجبال؟ أم على المهاجر الاكتفاء بتذكار مصنوع فى الصين، ودمعة وجوده فى منديل؟
●●●
فى الشتاء الماضى، ذات يوم عاصف، كنت أقود سيارتى لأوصل صديقة مصرية إلى مطار بيروت. فوجئت صديقتى بأغنية قديمة للفنان محمّد فوزى، وقالت لى بالحرف الواحد: «إنت عاملة لك مصر صغيرة هنا فى عربيتك. هى دى مصر. مش اللى أنا راجعة لها». ضحكنا كى لا تعرينا الدموع، فيما المطر ينهمر على السيارة وعاصفة الطريق بجنون. مصر الصغيرة؟ مصر التى لا تشبهها ولا تليق بها هذه الصفة فى أى سياق، مهما بلغ بنا اليأس من هاويات. مصر الكبيرة، كبلد ووطن وأم ومنارة، أيعقل أن نختزلها فى أغنية من حنين؟
ما الذى خرج به أهل حلب من بين ركام مدينتهم؟ الذين هرعوا لإنقاذ صغارهم من القصف، هل يعقل أن يكونوا قد تذكروا وسط هلعهم كتابا أو آنية أزهار؟
هكذا خرج أهل فلسطين من قبل، بمفاتيح منازل لم يعودوا إليها أبدا. كأنّما العالم العربى مبنى شاهق يشتعل، بشبابيك كلها مكسورة، والناجون بجلدهم يتلقفون أشياءهم المتطايرة من الحريق. لم أكن على خطأ إذا، حين اتخذت المنمنمات نهجا. الحدس أرشدنى إلى الأشياء التى بإمكانى إنقاذها والهروب بها.
●●●
فى حرب يوليو فى عام 2006 فى لبنان، كنت كلما اشتدت أصوات القصف أقف فى ظلال مكتبتى، وكأننى أعتذر لرفوفها وعصافيرها الورقية مسبقا، إن اضطررت إلى المغادرة فجأة، دون شجرتى. لحسن الحظ لم تصب المكتبة أو المنطقة التى أسكنها، لكن كثيرين فقدوا حيواتهم، أو أعضاء من أجسادهم، أو بيوتهم وأشياءها التى لا يعوّضها مبلغ من المال تتصدق به دول «صديقة». هذه بلاد بالكاد نخرج منها بأحبتنا سالمين، وبثيابنا علينا. لا جذور ولا أجنحة شاهقة. نحن الذين حلمنا بمدن ساحرة وأشجار تضحك، بشوارع نظيفة ومدارس ملونة وجامعات ومتاحف، بأوطان تليق بنفسها وبنا، وبصورتنا فى العالم، علينا القبول بمنمنمات تملأ أكفنا بحفنة وطن.
فلنحب أشياءنا ونحضنها بقوة. هى تبر الوطن على وردة اليد، وقد يسفر رمادها عن نجمة فى النفق. نعم، أتشبّث بهذا الأمل الشحيح، وأؤمن عميقا بأن أصل المحيطات دمعة، وأن الأرض، فى عين الأكوان، حبة غبار.