عندما اندلعت الثورة المصريَّة ضد حسنى مبارك فى 25 يناير 2011 لم تكن ردّات الفعل فى فلسطين مختلفة؛ فالأغلبية الساحقة، بلا شك، وقفت بجانب الثوار فى ميدان التحرير وتابعت أحداث الثورة باهتمام وقلق غير مسبوقين. كنا نجتمع حول التلفاز كلمّا ألقى مبارك خطابا من خطاباته، ثم ندينه ونصفه «بالوقاحة» كلمّا برر ما يحصل وألقى وعودا فارغة محاولا إرجاع المتظاهرين إلى بيوتهم وكأن شيئا لم يكن. حتى جاء يوم 11 فبراير، هذا اليوم الذى سيتذكره أجيال وأجيال من المصريين والمصريات. لكن ليس هم فقط.
الثورة المصرية غيرَت لنا نحن الفلسطينيين الكثير من المفاهيم التى كانت قد تعمقت لدينا فى ديسمبر 2008 عندما أعلنت تسيبى ليفنى، وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، الحرب على غزة من قلب القاهرة. لم نكن نعلم حينها أن الشعب المصرى كان فى شوارع القاهرة يتظاهر ويحتج ضد ما نزل بحكومته من ذل وعار. وكيف كان لنا أن نعلم والإعلام المصرى يسير وفق رؤية مبارك نفسه هو وحاشيته من رجال «الأمن» والعسكر.
من وجهة النظر الفلسطينية، مبارك لم يكن إلا أداة فى يد الصهاينة؛ فهو الرجل الذى أحكم الحصار على غزة ولم يسمح بنقل مصابيها إلى مصر حتى خلال ما يسمى ب«عملية الرصاص المصبوب». مبارك الذى الذى صُدِّر الغاز فى عهده إلى «إسرائيل» بسعر أقل من ذلك الذى يتوجب على المصرى دفعه. النتيجة الطبيعية لذلك كانت أن وجدنا أنفسنا نقف مع الشعب المصرى.
●●●
زيارتى الأولى لمصر بعد الثورة كانت فى يوليو 2011. كانت مصر فى ذلك الوقت تمر بالمرحلة «الانتقالية» تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكان عدم الرضا عن أداء المشير محمد حسين طنطاوى آخذ بالازدياد. لذلك، لم أتوقع أن يكون معبر رفح مفتوحا أمامى. هناك فى الجانب الفلسطينى لمعبر رفح كان علينا الانتظار لساعات طويلة حتى يأمر الضباط المصريون بدخول الحافلة التالية.
اللافت للانتباه حقا هو أن الغزِّى لا يحتاج إلى أكثر من ساعة ليكون رسميا فى الأراضى المصرية. هذه الساعة تتحول إلى خمس ساعات على أقل تقدير وأكثر من 24 ساعة لمن لا يحالفهم الحظ. على طريق العريشوسيناء كانت قوات الجيش منتشرة على نحو غير مسبوق، فالأمن الآن صار أولا وأخيرا على عاتق العسكر حتى يتم انتخاب الرئيس الجديد. ولكننى، ولأول مرَّة، لم أرهم «جنود مبارك» فهؤلاء هم الشبان الذين هتف لهم ملايين المتظاهرين «الجيش والشعب إيد وحدة».
زياراتى لمصر تكررت كثيرا بعد ذلك، تارة بسبب بعض التسهيلات التى قُدِّمت لنا على المعبر، وأخرى لأن السفر إلى مصر أصبح فرصة لا يمكن لى إضاعتها؛ فعلى عكس مصر فى أيام مبارك، نمت علاقاتى بكثير من المصريين والمصريات الذين استطعت من خلالهم التعرف بحق عن تفاصيل كثيرة متعلقة بالثورة إضافة الى وجهات نظر مختلفة حول مستقبل مصر وعلاقتها بالقضية الفلسطينية.
كغيرى من المصريين، لم أُرد لمرسى الفوز ولكننى رأيت فيه مرشحا أفضل من مرشح «الفلول» أحمد شفيق ولهذا وجدت نفسى سعيدة بهذا «الانتصار». فى غزة أيضا، كانت الناس تحتفل فى الشوارع سواء كانوا من نشطاء حركة حماس أو غيرها. «المهم أننا انتهينا من الفلول» هكذا كنا نقول.
اليوم، وبعد حادث سيناء فى أغسطس الماضى والإشاعات التى تلته حول تورُّط حركة حماس بقتل خمسة من حرس الحدود المصريين، نجد أن اللوم يقع علينا لأننا احتفلنا بانتصار مرسى. «بالطبع»، كثيرا ما يقال، «احتفل أهل غزة بمرسى، كيف لا ومرسى يصدر لهم الكهرباء بينما تنقطع عنا؟ وهو يسمح لجهادييهم أن يمروا إلى سيناء ليقتلوا جنودنا؟».
المذهل فى ذلك أن اتفاقية كامب ديفيد التى وقعها الرئيس المصرى السابق أنور السادات مع «إسرائيل» تُمسح تماما من أى نقاش يخص سيناء ووضع مصر الاقتصادى. إن هذا السلام مع «اسرائيل» هو الذى يجعل من سيناء مساحة خالية من الأمن ويجعل من جنودها فريسة سهلة لأى معتد. هذا السلام جعل من سيناء مساحة محررة بالمفهوم الشكلى فقط، «فإسرائيل» هى التى ما زالت تتحكم بعدد الجنود المسموح انتشارهم فى سيناء وأين. والمؤسف أن انتشارهم يكون بحيثية تخدم «أمن» حدود «إسرائيل» أكثر من حدود مصر ومصلحة قاطنيها.
●●●
عدت إلى زيارة مصر فى أوائل سبتمبر 2012، أى بعد أسابيع قليلة من حادثة سيناء. الواجب ذكره أنه تماما بعد الحادث قررت الحكومة المصرية إغلاق معبر رفح، أى قبل أن تتم أية تحقيقات حول ماهية الحادث وهوية مرتكبيه. أصابع الاتهام وجهت إلى غزة على الفور وبدأت بعدها حالة الفوبيا حول كل ما هو فلسطينى. بدأت الصحف ومواقع الأخبار الإلكترونية تتناقل أخبارا، كثيرا ما كان يشار إليها على أنها من «مصادر رسمية» دون ذكر أى من هذه المصادر، تتهم عناصر «جهادية» فلسطينية متسللة بالجريمة. كل هذا قبل الحصول على أى دليل.
أما فى آخر يوم من شهر نوفمبر، فوجئت حين أعطانى أحد الشبان فى ميدان التحرير بيانا ذُكر فيه أن «اتفاق وقف النار بين حماس وإسرائيل يسمح بقوات أمريكية فى سيناء ويمهد لتوطين الفلسطينيين فى سيناء وإعطائهم قطعة من أرض سيناء». هذا البيان كان قد صدر عن الحزب الاشتراكى المصرى بعنوان «الشعب يحمى الثورة ويصنع مستقبله».
هنا يجدر بنا الإشارة إلى حقيقة تاريخية. فى ظل حكم جمال عبدالناصر، هذه الحقبة الزمنية التى كان اللاجئون الفلسطينيون فيها فى أمس الحاجة للمسكن والطعام، تم عمل مقترح بهدف توطينهم فى سيناء. الفلسطينيون رفضوا هذا المقترح إضافة إلى مقترحات أخرى جاءت بها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين التابعة لهيئة الأممالمتحدة.
وصل الأمر ذروته فى شهر مارس من هذا العام عندما طلب منى أحد الضباط المصريين على الجانب المصرى من معبر رفح كتابة عنوانى على وثيقة اعتيادية. كتابة العنوان ليس بالأمر المستغرب فهو أمر إجرائى وعادة ما يكون كتابة اسم الحى أو الفندق كافيا. المفاجأة كانت عندما أعاد لى الضابط الوثيقة طالبا منى كتابة رقم البناية إضافة إلى رقم الشقة.
الصحف كانت مرة أخرى تعج بالشائعات وتتهم غزة بتآمرها مع الإخوان على الشعب المصرى ومقدراته. مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين لجئوا من مخيماتهم فى سوريا إلى مصر بحثا عن الأمان وعدم اعتراف الحكومة المصرية بهم لا أثر لهما.
●●●
إن علاقة حماس بجماعة الإخوان المسلمين لا يمكن إنكارها. هنا، نحن نفرق بين كتائب القسام، الجناح المقاوم لحركة حماس، وحماس السلطة السياسية التى يريد كثير منا التخلص منها ومن سلطة محمود عباس فى الضفة الغربية. إن محصلة ما يحدث اليوم فى مصر وما يصدر من شائعات حول «كره» أهل غزة لشعب يؤدى الى شعور الفلسطينى/ة فى مصر بالغربة وعدم الأمان.