«اول مرة شاهدته داخل حينا كان هو ومحمد خليل ومجموعة من شباب الحى يقطعون احد اكوام القمامة بالحى بالفئوس والمقاطف، ولما عرفنى عليه محمد خليل سألنى انت فى كلية ايه، قلت كلية الهندسة، فنظر إلى باشمئزاز وقال ازاى المتعلمين والمثقفين فى الحى ينعزلوا عن مشاكل الجماهير ويعملوا فيها افنديات، فوقفت امامه حائرا أشعر بالخجل من الرجل» كان ذلك ملمحا من بروفيل شاب من جيل الستينيات يلتقى لأول مرة بمثقف ويتعلم السياسة.. تلك المشاهد النادرة لن تجدها الا فى سيرة مناضل اشتراكى من طراز كمال خليل، التى صدرت تحت عنوان «حكايات من زمن فات» عن دار «بيت الياسمين»، وتحوى دروسا مهمة لجيل ثورة يناير فى العمل السياسى. «ازاى دكتور جامعة واقف فى قلب الحى ماسك الفأس يقطع اكوام القمامة مع انه من خارج الحى والقمامة من صنع ايدينا»؟ يسأل كمال خليل الشاب ووعيه السياسى يتفتح لأول مرة بفضل نزول الدكتور محمد أنيس إلى الحارة الضيقة وعمله مع الناس، ويكمل خليل «على الفور توجهت إلى إحدى الفئوس وتوجهت للعمل مع الآخرين، فنادانى وقال لى المسألة مش مسالة فأس ومقطف المسألة مسألة وعى وارتباط المثقفين الثوريين بالجماهير الشعبية. رجعت إلى الحيرة والصمت ثانية فقال لى النهاردة الساعة 6 مساء فيه ندوة على القهوة اللى جنب مكتب العمدة. تعالى احضرها. اكيد ها تستفيد «وبتلك الكلمات البسيطة يشكل الدكتور أنيس وعى كمال خليل، الذى سيكون له بعد ذلك دورا قياديا فى الحركة الطلابية احد بواكير الثورة المصرية ضد الاستبداد.
لم يكن الفضل للدكتور أنيس وغيره من المثقفين فقط فى تشكيل وجدان كمال خليل، ولكن ايضا للطليعة الشابة التى تجرأت وهتفت فى نقد النظام الناصرى، كان ذلك عام 1968، عندما كان خليل يجلس فى مدرج كلية الهندسة ثم ترامى إلى مسامعه صوت الهتاف الآتى من المظاهرة، ساعتها نصح الاستاذ الطلاب بعدم المشاركة قائلا «احنا بتوع علم مالناش دعوة بالسياسة»، ولكن الهتاف وصل إلى المدرج «يسقط كل مصرى جبان»، هنا قال خليل لنفسه «انا ابن حارة لا يمكن ان اكون جبانا»، وهو اليوم الذى سيعتبره كمال خليل بعد ذلك يوم ميلاده الحقيقى.
وكذلك شاب آخر لم يلتقه، ولكنه ترك أوراقا تحت نخلة بالجامعة «اخذ يتفحصها فوجدها قصيدة شعر مطبوعة بالاستنسل اخذ يقرأ عنوان القصيدة فوجدها جيفارا مات».
وعندما ترى تاريخ مصر السياسى من منظور كمال خليل ستجده مختلفا عن التحليلات السطحية التى تطلق احكاما مبسطة على العهود المختلفة اما بالنقد او التمجيد، ففى الحقبة الناصرية لن تجد فقط الجهاز الامنى المتغول على الحريات ولكن ايضا شخصيات من طراز «أمين شباب المحافظة» الذى وقع لهم بالتصريح بالنشر على مجلة حائط من قبل أن تكتب لكى يشجعهم على أن يعبروا عن رأيهم بحرية، ويحكى خليل عن المجلة «رسمنا قطارا تتلوى عجلاته على القضبان.. قطار ثورة يوليو.. وكتبنا اسفل الرسم عبارة ياوابور قوللى رايح على فين!!.. رسمنا رسما كاريكاتيريا كبيرا.. عبارة عن حائط كبير مرسوم علب قمته عشرة رءوس وكتبنا على الحائط الاتحاد الاشتراكى العربى لجنة العشرة.. ووقف امام هذا الحائط مجموعة من الشباب متحفزين وهم يصرخون دعونا ننطلق».
وستشعر بغليان المشاعر من تصريحات قادة البلاد، حيث يحكى أنه فى صيف 1971 تحرك عمال الحديد والصلب من اجل مطالب اقتصادية تخص عمال المصنع، وكان انور السادات فى الخارج وجاءت تصريحاته فى الصحافة «لو كنت فى مصر وقت الاضراب كان لى تصرف تانى مع هذا الاضراب بالطبع كان يقصد تصرف اشد قوة».
«كان فيه مؤتمر فى كلية الحقوق وقفت طالبة فى المدرج تقول اين هو الله حد يقدر يثبت انه موجود وحطت ايديها فى جيبها وقالت لا يوجد شىء اسمه الله طبعا الطلبة ثارت وقامت الخناقة والضرب» كانت رواية انور السادات لاحداث عنف فى كلية الحقوق، بينما تسمع رواية ثانية من كمال خليل الذى كان فى قلب الاحداث، بأنه «فى كلية الحقوق جامعة القاهرة ومع استقبال اتحاد طلاب الكلية لطلبة السنة الاولى اخذ رئيس الاتحاد الموالى للدولة ولأجهزة الامن يحذر الطلاب من الشيوعيين والكفرة.. ولما وقفت طالبة من طلبة السنة الاولى لتطلب منه سماع وجهة النظر الاخرى تقدم احمد شرف الدين عضو جماعة الدراسات الاشتراكية بالكلية ليشرح مطالب واهداف الحركة الطلابية فاستطاع اجتذاب الغالبية العظمى من الحاضرين من الطلاب للتعاطف مع الحركة الطلابية ومع تصفيقهم له بدأت مطاوى وجنازير فرق محمد عثمان فى الظهور»، تلك الرواية التى يلقى بها خليل الضوء على سياسات السلطة فى استغلال الخطاب الدينى فى الاستبداد وتشويه المعارضين.
وبالرغم من كل ما رأه خليل فى مشواره السياسى، منذ أن انجذب لنداء «يسقط كل مصرى جبان» إلى رحلات الاعتقال فى سجون السلطة، تحمل ذكريات المناضل الاشتراكى لجهة تفاؤل دائمة بالمستقبل وثقة فى قدرة الجماهير على التغيير، حيث يحكى من ذكرياته فى السجن 1973 الجدل الدائر بين المعتقلين «يا ترى بعد كل مظاهرات وحركة الطلاب الثورة حتكون بعد كام سنة، كان بعض الطلاب يراها بعد ثلاث او خمس سنوات بالكتير، البعض كان يرى ان الحركة ما زالت فى اوساط الطلاب والطلاب لا يصنعون ثورة لذا قالو الثورة بعد 25سنة، اما انا فكنت من انصار الثورة اهى جاية حتى لو فى القرن ال100».