أذكر، ذات مرة، قبل عدة سنوات، أثناء اجتماع عمل مع رجل من السويد، كان يعمل مع عدة شركات مصرية منذ فترة ليست بالقصيرة، أنه قال بحدة قبل بداية اللقاء إنه « لا يريد أن يسمع حكاية أن المصرى صاحب أخف دم فى العالم، وأن أهل بلده وسائر شعوب الأرض أصحاب ظل ثقيل، ولا أن المصرى طيب ويهب لنجدة جاره فى منتصف الليل، بينما أبناء جلدته قساة غلاظ القلوب يتركون من ينزف دما أمامهم دون أن يحركوا ساكنًا حتى يتوفاه الله. « ثم أضاف الرجل بحسم « إن شعبه دمه خفيف أيضًا، وأن كل الشعوب لها خفة الظل الخاصة بها، كما أن الجار لا يذهب فعلاً بجاره المريض أو المتعب إلى المستشفى، لأن هذا يرجع لسبب بسيط جدًا أن الإسعاف أو الإنقاذ يأتيه فى دقائق قليلة، وطبعًا الإسعاف أفضل للمتعب أو المصاب من الجار قليل الحيلة، لكن لو غاب الإنقاذ لأى سبب فهو أيضًا سيهب لنجدة كلب أو قطة وليس إنسانًا يعيش بجواره ويتقاسم معه تفاصيل الحياة». الرجل السويدى أخبرنا يومها، بأنه أصبح خبيرًا بشئون حياة المصريين، وأنه يفهم تفاصيل سلوكياتهم، لأن لديه الكثير من الأصدقاء منهم فى بلده، إلى جانب التجارب والخبرات التى عرفها وكونها ممن يعمل معهم، ليلتها أصر الرجل أن المصريين مثلهم مثل سائر شعوب الأرض، باستثناء عدم قدرتهم على الهجرة، فأيًا كان عدد السنوات التى يعيشها فى الخارج، وأيًا كانت ظروف معيشته، نجاحه أو فشله، فهو يحرص دائمًا على « التلكك » من أجل الذهاب إلى مصر، وأشار الرجل بذكاء شديد، إلى أن المصرى يعرف أنه لن يعود هو أو أى من أولاده، لكنه يشترى أكثر من منزل أو يشارك فى مشروع تجارى من أجل أن يكون لديه مبرر للعودة، أو أن يعود بالفعل هو وأولاده يومًا ما، كما أشار الرجل بصياغة مدهشة، إلى أن حياة المصرى فى الخارج تبدو دائمًا مؤقتة، وأن أصل « العيشة » هناك فى مصر بعد أن ينتهى من أعماله الضرورية فى المهجر، فلا داعى للاستثمار أو بناء منزل كبير مثلما يفعل أبناء الدولة التى يعيش فيها، فهو سيعود يعنى سيعود، وأنه فى رحلة ذهاب لابد لها من عودة .
كنت أعتقد أن ما قاله الرجل عقيدة راسخة عند المصريين، وأنها لن تتبدل أبدًا، لأن فى هذه البلاد ما يجعل أهلها لا يرغبون فى مفارقتها أبدًا، وأنهم دائمًا فى رحلة ذهاب، ستنتهى بالعودة، لكن على ما يبدو أن الامور آخذة فى التغير، وأن هناك شيئًا ما قد حدث فى العامين الماضيين، جعل تلك العقيدة الراسخة تهتز، وكأن البعض قد بدأ فى مراجعة النفس، وإعادة تقييم الوضع من جديد، أما الذى جعلنى أتذكر حوار صديقى السويدى، وأوجع قلبى أيضًا، ما حكته مواطنة مصرية تعمل فى كندا، كانت فى زيارة اعتيادية لمصر، ثم ركبت الطائرة لتسافر إلى كندا، فداهمها شعور غريب وكئيب، على حد وصفها، الذى كتبته على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعى « فيس بوك »، فقد تساءلت والطائرة ما زالت على أرض مطار القاهرة: « أنا رايحة ولا راجعة ؟ »، أى أنها ذاهبة إلى بلد آخر، ومن بعد ذلك تعود، أم أنها كانت فى زيارة وتعود إلى وطنها كندا ؟.. كان مجرد طرح السؤال على نفسها دافعًا للبكاء الشديد المستمر، من القاهرة إلى مونتريال، عبر لندن، فقد أحست أن شيئًا ما قد تغير فى الوطن، بشكل جعلها تعتقد أنه لم يعد وطنها، لكنها مازالت فى مرحلة « أنا رايحة ولا راجعة ؟».