بعد أن جاوز الثمانين بقليل.. جلس الرجل العجوز يحتفى بضجيج الأحفاد حول سريره الدافئ.. يعبثون بكتب قديمة تحمل اسم جدهم ورسوما تشف كثيرا من ملامح براءتهم.. يقرأون فيها الكثير من «حواديت» الجد التى كانت يوما ذلك «السر» الذى يستأنس به طلاب المدارس هربا من مقررات مملة. فى حضرة هذا المشهد الودود.. كان محمود سالم قد توارى عن أعين الكاميرات وصخب حفلات التوقيع وغيرها من مراسم الثقافة هذه الأيام.. حتى ظن كثيرون أنه قد رحل عن دنيانا.. وهو من حفر عبر سنوات طويلة اسما على طريقة «برايل» يبصره حتى المكفوفون، الذين على الأقل قد سمعوا يوما عن «تختخ» بطل «المغامرون الخمسة» أحد أبرز سلاسل المغامرات التى باعت آلاف النسخ.
تصدر محمود سالم قبل أيام أخبار عدد من المواقع الإخبارية وتغريدات «تويتر»، ولكن هذه المرة لنعى خبر رحيله عن دنيانا، عن عمر 84 عاما، تتنقل فى كلمات التأبين رثاء لرائد أدب المغامرات والروايات البوليسية فى مصر والعالم العربى.
ولد محمود سالم فى الإسكندرية عام 1929، وعاش طفولته بين عدة مدن ساحلية كالإسكندرية والمنزلة وبلطيم، تنقل سالم من كلية الحقوق إلى كلية الآداب، لكنه لم يستكمل دراسته إذ استحوذت القراءة، بالإضافة إلى هوايته الأثيرة صيد السمك، على كل وقته، إلى أن ساعده أحد أقاربه وتوسّط لتعيينه موظفا فى وزارة الشئون الاجتماعية.
بدأت رحلته مع الصحافة عند تعرفه على الصحفيين صبرى موسى، وجمال سليم، اللذين كانا يعملان فى مجلة «الرسالة الجديدة» وهى أحد إصدارات دار «التحرير».
عمل بعد ذلك مراسلا عسكريا لصحيفة «الجمهورية» أثناء العدوان الثلاثى عام 1956، وبعد أن حقق نجاحا فى تغطيته الصحفية للحرب، استقال من وظيفته الحكومية وتفرغ للعمل الصحفى، حتى أصبح رئيسا لقسم الحوادث فى «الجمهورية» قبل أن ينتقل للعمل فى دار الهلال.
فى مجلة «سمير»، التى تصدرها دار الهلال اكتشف محمود سالم موهبته فى الكتابة للأطفال، وأصبح مسئولا عن تحرير المجلة، إلى أن غادرت نادية نشأت، رئيسة تحرير المجلة، دار الهلال لدى تأميمها عام 1961، لتنتقل إلى دار المعارف، وينتقل «سالم» إلى مجلة «الإذاعة والتليفزيون».
عام 1968 اقترحت نادية نشأت على سالم إصدار سلسلة مغامرات شهرية للأطفال، فقام بتعريب سلسلة إنجليزية تُدعى The Five، تحكى عن خمسة أطفال يتعرضون لمغامرات ويحلون ألغازا ويتعقبون لصوصا ومجرمين، ليظهر «المغامرون الخمسة»، وهم خمسة أطفال مصريين (تختخ، محب، عاطف، نوسة، لوزة)، يعيشون فى المعادى ويساعدون الشرطة فى ضبط الجناة وحل الألغاز، للمرة الأولى عام 1968 فى «لغز الكوخ المحترق».
استمرت هذه السلسلة فى الصدور شهريا حتى عام 1972، إذ فُصل «سالم» من وظيفته لميوله الناصرية، ثم صدر قرار بمنعه عن الكتابة فى مصر، لينتقل إلى بيروت، ويبدأ إصدار سلسلة «الشياطين ال13» التى تضم مغامرين من كل أنحاء الوطن العربى يتصدون لمؤامرات تقودها أجهزة مخابرات أجنبية تهدد سلامته.
عاد «سالم» إلى مصر فى ثمانينيات القرن الماضى، واستمرت سلسلة «الشياطين ال13» تصدر من القاهرة عن دار الهلال، حتى منتصف التسعينيات.
فى عام 2007 تحولت إحدى مغامرات «الشياطين ال13» إلى فيلم سينمائى، بعنوان «الشياطين»، من إخراج أحمد أبوزيد. كما تحولت سلسلة المغامرين الخمسة إلى مسلسل رسوم متحركة للأطفال. ولم يتوقف «سالم» عن الكتابة حتى الشهور الأخيرة من حياته، إذ واظب على كتابة حلقات جديدة من «المغامرين الخمسة»، بدءًا من عام 2010، صدرت عن «دار الشروق».
قبل شهور من وفاته أجرت «الشروق» حوارا مع محمود سالم للاطمئنان على صحته خاصة مع تعرض قلبه للوهن، ما قابله الأطباء بتوصيات عاجلة للتدخل الجراحى، وهو ما عقب عليه سالم وقتها «أنا شديد الحساسية من الألم، أما الموت فلا أخشى منه، فلقد جاوزت الثمانين من عمرى، عشت بما يكفى، ولكن عندما أتخيل أننى سأخضع لجراحة فى قلبى أخاف وأظن أننى لن أتحمل هذا».
قال لى خلال هذا الحوار: «قمت بما أريد عمله فى هذا العالم»، إلا أنه كشف عن أمنية خاصة «أرجو أن يتم جمع هذه الألغاز وتجليد كل مجموعة منها فى جزء منفصل، حتى يتم الاحتفاظ بها فى مجموعات وأجزاء حفظا لها من الضياع»، كان محمود سالم يخاطب بهذا الرجاء «دار المعارف» التى أعادت طبع ألغازه أكثر من 17 مرة، وخاطب بها أيضا أى دار نشر تتحمس لهذا الطلب، أحالته تلك الأمنية إلى ذكريات الكتابة التى لم تكن أبدًا بالنسبة لمحمود سالم بعيدة عن سياق طابور الخبز «الحاجة كانت تدفعنى إلى العمل.. كنت أحتاج إلى المال فى مقتبل حياتى، فكنت أنكبّ على الكتابة، وأذكر أننى كنت أكتب اللغز أحيانا فى يوم واحد من الساعة الخامسة صباحًا وحتى التاسعة مساء».