لحظة درامية بامتياز تلك التى يقرر فيها الكاتب العربى الأشهر فى الغرب أمين معلوف أن يكتب سيرته الذاتية التى صدرت باللغة الفرنسية بعنوان «التائهون». فهى أول إنتاج أدبى له بعد اختياره عضوا فى الأكاديمية الفرنسية، ليصبح أحد الأعضاء الأربعين «الخالدين» كما يطلق عليهم نسبة إلى خلود اللغة الفرنسية. وهى أول مرة يتناول فيها صاحب «ليون الأفريقى» سيرته الشخصية بشكل صريح حتى وإن تراوح فيها الخيال مع الواقع ويسترجع فيها سنوات الحرب الموجعة فى لبنان مسقط رأسه الذى تركه منذ 37 عامًا ليستقر فى باريس وينضم إلى كتاب المنفى، اختياريا أم إجباريا، ويرى اسمه مذيلا بتعريفات مثل «كاتب عربى يعيش فى فرنسا»، أو «كاتب فرنكوفونى ذى ثقافة عربية»، أو «الكاتب المنتمى للإنسانية». ويبدو صدور الرواية أيضًا بعد عامين من زلزال الثورات التى اجتاحت بلدان الربيع العربى المتاخمة لبلاد الأرز، كما لو كانت اللحظة الراهنة قد فرضت سؤال الواقع اللبنانى فى ضوء الحرب الأهلية اللبنانية 1975 1990، وفرضت أيضا وعلى وجه الخصوص سؤالا طالما تم تأجيله حول التاريخ الشخصى لأمين معلوف نفسه، وأسباب رحيله من لبنان، وجذور الصراعات العقائدية الهشة فى أرض الفينقيون، بعد أن توارى الكاتب طويلا خلف قناع الرواية التاريخية. وتأتى هذه اللحظة كما لو كان اعتراف المؤسسة الفرنسية به كأحد أبنائها ومالكى ناصية لغتها هو فرصة فريدة للبحث فى الجذور وطرح السؤال «العويص» حول ما إذا كانت الهجرة بمثابة «تخل» عن الوطن، أم إنها طوق النجاة حين يكون المكوث فيه تلويثا للأيدى؟
رواية الأصدقاء بين الاغتراب والحنين: بعد رواياته العلامات «الحروب الصليبية كما يراها العرب» و«سمرقند» و«صخرة طانيوس» التى استحق عنها جائزة الجونكور عام 1993، أو رائعته «هويات قاتلة»، يكتب معلوف «التائهون» عن الذين ضاعوا وتشتتوا وفقدوا البوصلة، حيث يحمل أيضا جرس العنوان فى لغته الفرنسية كلمة «الشرق»، كما لو كان هناك معنى مستتر يدل على الذين أبعدوا عن الشرق. يكتب معلوف عن سنوات الصبا مع مجموعة من الأصدقاء اللصيقين الذين آمنوا معا بإمكانية تغيير العالم ثم تشتتوا بفعل الحرب فى بقاع الأرض المختلفة، منهم من صمد فى البلاد ومنهم من هاجر إلى البرازيل أوالولاياتالمتحدة أو فرنسا، والأخيرة هى التى استقر فيها آدم بطل رواية معلوف.
يظل آدم فى فرنسا حتى بعد انقضاء الحرب، وبعد أكثر من 25 عاما من انفراط عقد الأصدقاء والبعد عن البلاد، يأتيه خبر احتضار صديقه مراد، فيسافر حاملا معه قصاصات ورسائل قديمة تبادلها مع شلة الأصدقاء تكون هى صحبته فى رحلة العودة وإعادة قراءة الماضى. وبمجرد أن تطأ قدماه أرض لبنان يكون صديقه قد لفظ أنفاسه الأخيرة، فيقضى آدم ستة عشر يوما فى مسقط رأسه تكون هى محور السرد فى روايته حيث يحاول أن يجمع شمل الأصدقاء بعد رحيل صديقهم تلبية لرغبة أرملته. يقوم آدم بكتابة يومياته هو أستاذ التاريخ فى إحدى جامعات فرنسا الذى يمتهن التنقيب فى الماضى والبحث فى القصاصات القديمة، يعيد قراءة خطابات تبادلها قديما مع أصدقائه (مع مراد الذى رحل بعد أن تبدلت مواقفه فى أثناء الحرب أو بلال الذى لقى حتفه فى إحدى العمليات المسلحة، أو ألبير الذى ضاق بالحرب واستقر فى الولاياتالمتحدة وغيرهم)، يستدعى ذكريات يملؤها الحنين مع حلقة الأصدقاء الذين تعاهدوا يوما ألا يفترقوا. يبحث عما تبقى من جيل معلوف نفسه، من بيروت الأمس؟ «بعض الذكريات المشتركة وحنين لا يداوى للزمن القديم»، كما تأتى الإجابة على لسان الراوى، بدون تبنى نغمة زاعقة، أو الدفاع عن النفس كما لو كان الرحيل تخليا وخيانة، يغوص الراوى فى علاقته بالوطن الذى كان عبر كتابة هى البطل الرئيس لهذا العمل قائلا: «قد يتصالح المرء مع اختفاء الماضى، أما ضياع المستقبل، فهذا ما لا يشفى منه أبدا. البلد الذى يحزننى غيابه ويلاحقنى، ليس هو ذلك الذى عرفته فى صبايا، بل هذا الذى حلمت به والذى لم يقدر له أن يرى النور قط».
ما بين الرواية والسيرة الذاتية: لا يلجأ أمين معلوف إلى صيغة المتكلم بحيث يسهل تصنيف الكتاب تحت نوع «السيرة الذاتية»، لكنه يبنى عالمه الروائى من خلال اثنين من الرواة يتبادلان الحكى الراوى الأول هو الكاتب نفسه الذى يسرد قصة آدم وعلاقته بأبناء جيله وببيروت فى زمن الحرب حتى اليوم، والراوى الثانى هو آدم الذى يكتب يومياته بصيغة المتكلم خلال الستة عشر يوما، زمن رحلة العودة المؤقتة للوطن فتتداخل اليوميات التى يتليها علينا آدم بما بها من تشويق ومونولوج داخلى ورسائل حميمية بين الأصدقاء وكشف لأسرار ومصارحات فيما بينهم، وتتشابك هذه التفاصيل مع تاريخ الكاتب أمين معلوف نفسه. فيسمح له هذا الغطاء الفنى، أو هذا القناع الأدبى بأن يكشف عن مشاعره بلا مواربة وعن علاقته ب«حضارة الشام»، وأن يتعرى أمام قارئه معلنا انتماءه للعالم الواسع متجاوزًا عالم الجغرافيا الضيق. فيتذكر فى يومياته قرار رحيله عن الشام، ويؤكد بعد مرور السنين أنه لم يكن رد فعل انفعالىًا سريعا للحرب أولاستحالة العيش كما اعتقد أصدقاؤه لكنه قرار كان قد نمى ونضج تدريجيا «فى عالم الشام الذى لا يكف عن الاظلام، لم يعد لى مكان، ولم أعد متمسكا ببناء مكان آخر». ويذهب الراوى الثانى، أو الكاتب المتخفى، إلى تأكيد انتمائه للكون قائلا: «ولدت فوق كوكب، وليس فى بلد ما. صحيح أنى، يقينا، ولدت أيضا فى بلد، وفى مدينة، وداخل جماعة، وأسرة، وطفولة، وفراش.. لكن الشىء الوحيد المهم، لى كما لكل البشرية، هو المجىء إلى العالم».
وفى لعبة المراوحة ما بين الرواية أوالعالم المتخيل وبين السيرة الذاتية أوالتفاصيل الشخصية، يسمح الكاتب لقارئه أن يضاهى بينه وبين آدم فى كثير من تفاصيل سيرته الذاتية،كما فى ذكره لأحد أعماله الأدبية الشهيرة، أى رواية الهجمات البربرية إشارة إلى روايته عن الحروب الصليبية، وهى مناورة محترف للأدب أراد أن يبرر لنفسه أولا، أو لقارئه، أو لقومه، أو لكل هؤلاء معًا أسباب الرحيل، وخصوصية تجربة الحرب العبثية، وشعوره الدائم أينما وجد بالاغتراب: «منذ أن كان عمرى ثلاثة عشر عاما، شعرت دائما أينما ذهبت أنى زائر. قد يتم استقبالى بأذرع مفتوحة عن آخرها، أو يتم قبولى بالكاد أحيانًا، لكننى لم أكن أبدا فى أية مكان مواطن كامل الحقوق. متفردا على الدوام، غير متكيف اسمى، نظراتى، هيئتى، لهجتى، انتماءاتى الحقيقية أو المفترضة. غريبا لا أمل فى شفائه، سواء فى مسقط رأسى أو فى أراضى المنفى». عبر أكثر من الخمسمائة صفحة، لا نصل إلى أى وميض من النور، وحتى اسم الراوى نفسه «آدم» لم يكن مصادفة، اسم يحمل معنى البدايات والنهايات فى آن، هو الجد الأول والمؤسس، لكنه يدرك اليوم أنه لن يحقق المهمة، ولن يظل الأول فى السلسال بل قد يكون الأخير، المتمم لطبقات الحزن والإحباطات المتوالية والخزى». وماذا عن الغد؟ يكتب الراوى: «على المدى البعيد، كل أبناء آدم وحوا هم أطفال ضائعون».