غالبًا ما سيدفعك فضولك إلى التعرف على صاحبة هذا الاسم، وغالبا ما ستربط بينها وبين صاحبة العنق الآسر الممتد على صفحة الغلاف، تمعن النظر أكثر فتشاهد وجهها الأسمر يناطح السماء ويتماهى فى أجواء غابات أفريقية خلابة أبدعها الفنان عمرو الكفراوى لتختصر أمامك آلاف الأميال التى قطعها أشرف العشماوى، وهو يعدك لمشاركته تلك التجربة الثقافية والروحية المختلفة. حتى تلتقى «تويا» تجوب مع يوسف نجيب مسافات بعيدة من القاهرة شرقا إلى ليفربول شمالا وتشق الجنوب إلى أحراش مومباسا ونيروبى،تجوب مع هذا الطبيب المصرى الشاب مسافات أعمق فى رحلة تأمل ذاتى ووجودى، فهو ابن لطبيب مصرى اشتراكى النزعة والهوى.. عاشق لجمال عبدالناصر وأسطورته التى كان يراها خالدة وحاول ما استطاع أن يورث ابنه هذا العشق كما أورثه المهنة وحتى التخصص الطبى، ولكنه لم يفلح فقد كان يوسف «يختنق من السياسة ويكره الحروب التى قادهم لها عبدالناصر».
دور استقطابى: الأم الإنجليزية شغلت على مدى الرواية تيمة محفزة لتطور شخصية الابن، بما مارسته من دور سلطوى واستقطابى جعلها على الدوام على الطرف النقيض من شخصية الأب الحالم، الذى رحل عن الدنيا بعد تخرج يوسف من الجامعة، فيما تفرغت الأم، التى كانت قد انفصلت عن الوالد فى وقت مبكر راحلة إلى ليفريول، إلى نفض الغبار العالق على ذهن ابنها من أى انتماءات قومية، ممنية إياه بالثراء السريع والشهرة المدوية التى ستكون فى انتظاره حال استقراره فى ليفربول، وهو ما لقى هوى عند يوسف الذى حار كثيرا بين تصنيف الطب كمهنة وبين إرث والده الذى آمن كثيرا برسالة الطب حتى إنه كان يخصص يومين لعلاج الفقراء فى عيادته وبقية الوقت لإدارته مستشفى الجذام.
السؤال الأزمة: لم يكن يوسف يعى وهو فى أوج تخطيطه النفعى والمادى أن لقاءه بالبروفيسير جورج راندل، صاحب الصيت العالمى، سيكون بوابته لعبور جسر الإنسانية الذى لم يرق له يوما، ففى الوقت الذى كان يداعب خياله مكرا استقطاب هذا الطبيب الكبير مستغلا اسمه لتأسيس مستشفى ضخم بالقاهرة كان راندل يجدد على مسامعه السؤال الأزمة عن دور الطب، المهنة أم الرسالة؟ وعرض عليه الانضمام إلى مؤسسته الطبية لإجراء مزيد من الابحاث على مرض الجذام فى كينيا الذى تخصص فيه «أنا أرغب فى إجراء المزيد من الأبحاث للوصول إلى عقار جديد لا يستطيع الميكروب اللعين أن يكتسب حصانة ضده بسهولة أو فى وقت قصير.. وإذا ما نجحنا سنستطيع تخليص العالم من هذا المرض وهو رسالة أريد أن أتمها قبل رحيلى.. كل ما أريده منك أن تخصص لى من وقتك بضعة شهور لن تزيد على تسعة فى جميع الأحوال تذهب فيها إلى إرسالية طبية إلى إحدى دول أفريقيا لمشاهدة الحالات على الطبيعة».
قلب جديد: التسعة أشهر الذين تحدث عنهم راندل تحولوا من كابوس قاتم مع الأيام الأولى لبعثة يوسف إلى كينيا إلى نقيض من الرجاء والتوسل للبروفيسير بعدم عودته من جديد إلى ليفربول ومد عمله فى تلك الأراض الفقيرة، معبرا عن ذلك فى أكثر من رسالة حملت كثيرا من أنفاس قلبه الجديد، يقول فى مطلع أحدها «لقد وجدت نفسى هنا.. عرفت قيمة مهنتى وحقيقة رسالتى فى هذا الجانب المظلم من العالم.. استيقظت مشاعرى من سبات عميق، ويبدو طموحى يسير فى مساره الصحيح اكتشفت أننى لم أفعل شيئا فى حياتى من أجل الآخرين.. كنت أعيش لنفسى فقط».
نجاح يوسف اللافت فى تطوير مصل جديد لعلاج مرض الجذام فى طوره الأول لم يأتِ من فراغ ولا بضغطة زر، فحالة الوجد التى بعثتها داخله تلك الفتاة السمراء الفاتنة «تويا» كانت لها أبلغ الأثر فى مشروعه الطبى والإنسانى، ليس فقط لحضورها الأنثوى الرائق ووجهها الصبوح، ولا اختلافها عن بنات قبيلتها من «الكيويويو» ولا حتى الحالة الأقرب للسينمائية التى التقاها بها فى المرة الأولى وهى تستحم فى البحيرة التى باتت مقر لقائهما فيما بعد.. فقد كانت «تويا» مفجرة لطاقات الإلهام بمجهودها التطوعى المبكر فى قبيلتها، الأمر الذى حاك خبرتها وأعانها على مساعدة حبيبها المصرى فى الاتيان له بحالات لمرضى الجذام من قبيلتها لاختبار أبحاثه عليهم.
قسوة بركان: فى أثناء هذه الرحلة البحثية كانا على موعد مع أقدار بائسة قادتهم لوضع أيديهم على لغز عصابة خطيرة تتاجر فى الأعضاء البشرية لاسيما للأطفال علاوة على ممارستها لجريمة الصيد الجائر، وكانت تلك العصابة، المكونة من نيفيل وإيراى ومينجو، تستغل جهل القبيلة المطبق وإيمانه بالخرافات، وتروج لهم أن النيران المستعرة على مدد نظرهم صادرة عن فوهة بركان غاضب يؤججه آلهة الطبيعة، فى حين أنها كانت أعمدة نيران مستعرة لجثث أطفال صغار يتاجرون بأعضائها فى قسوة منقطعة النظير، ودفع ثمن كل من اضطلع على هذا السر الفاحش حياته بمن فى ذلك شخوص نبيلة اقتربت من يوسف وأحبته على رأسهم الطفل الباسل «دونو» وحب عمره «تويا» فيما بعد.
رواية أشرف العشماوى أدرجت ضمن القائمة الطويلة لروايات البوكر العربية هذا العام، وصدرت عن الدار المصرية اللبنانية فى 280 صفحة من القطع المتوسط، وهى الرواية الثانية له بعد «زمن الضباع» التى افترض فيها أن بطل الرواية ثعلب صغير كان يحيا فى الغابة الواسعة، يفاجأ صباح أحد الأيام بأن ملك الغابة ليس أسدا حتى ولو كان له مظهر الأسد! فى إسقاط تماهى معه الكاتب الذى تشكل تيمة «العدالة» جزءا صميما من تركيبته البشرية، وبذل فيها حياة مهنية حافلة ما بين مستشار بمحكمة استئناف القاهرة، وقاض عمل بالمحاكم الجنائية والمدنية ومن قبلها محقق على مدى عشرين عاما مضت كوكيل للنائب العام.
يوسف الحائر! تحيلك «تويا» للكثير من الإسقاطات التى يمكنك التقاطها بسهولة، فتلمح فى بطله يوسف وجها لدول عالمنا الثالث التى لا تزال تبحث لنفسها عن موضع قدم، فى ظل استقطاب أجوف بين نظريات وأحلام تطلق عليها عروبية أو وحدوية او إصلاحية أو حتى نهضوية، وبين عالم غربى يرى جليا طريقه فى الكسب المضمون على أراض الفقر والتخلف، حتى لو كانت نبيلة المقصد كما فى حالة حلم البروفيسير راندل بتطوير ألحاثه الطبية فى كينيا، أو أغراض خبيثة كما فى حالة «نيفيل» المجرم الذى يتاجر فى أعضاء الأطفال والفتيان ويشحنها إلى إنجلترا، مجسدا حلقة فى ترس مافيا محترفة تنهب الخير وتفترس البراءة دون رحمة.. تلك البراءة التى تراها تجهض مع مصرع الطفل «دونو» على يد عصابة نيفيل، مجسدا وأد طفولة فقراء العالم الثالث وسط صمت دولى مفجع على الجرائم التى تمارس ضدهم، يزيدها قلة حيلة وجهل آبائهم وعدم قدرتهم على حمايتهم.
تويا الفرعونية: ترى العناد الاستعمارى مجسدا فى حب الامتلاك لدى «كاترين» صديقة يوسف الإنجليزية التى هجرها من أجل تويا، ووالدته السيدة «براون» التى وجدت فى تحالفها مع «كاترين» مصلحة استحواذية وطبقية تضمن لها استقرار ولدها فى لندن، وهو ما دفعهما للاتفاق مع المجرم «نيفيل» فى كينيا للقضاء على أحلام يوسف وعزله عن حبيبته «تويا»، تلك الفتاة التى تحمل بسمارها واسمها الفرعونى الأصل الكثير من ملامح الشرق السامى والجريح فى آن واحد، ومن رحمها يتجدد هذا الحلم الدافئ والحافز الإنسانى المتمثل فى ابنتها من يوسف التى فقدت والدتها منذ نعومة أظافرها، ليحملها يوسف بين أحضانه كتميمة حظ ووفاء أينما ارتحل بعيدا عن نيروبى، محدثة العالم عن جذور آبائها الأفريقية، التى شقت العنان وأنبتت ثمرا استوائى المذاق لا يمكن أن تخطؤه مهما امتدت المسافات.