مصر المثخنة بالمليونيات لا تحتاج إلى مزيد من مسببات التلبك السياسى الذى يسيطر عليها الآن.. ومن الأفضل فى هذه الحالة أن نترك لها مساحات تتنفس فيها خروجا من المأزق الذى حشرتها فيه جميع الأطراف. إن الميادين لم تعد فى وضع يسمح لها بكميات إضافية من عوامل الاستقطاب والاحتقان، وأزعم أن من حقها أن ترتاح قليلا بتوجيه طاقة الحشد والحشد المضاد إلى فعل سياسى يمهد الطريق أمام الفرقاء لخوض سباق الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويتيح مجالا لالتقاط الأنفاس والدخول فى مناخ من التفكير، بدلا من جحيم التكفير والتخوين المستعر.
وبعد أن وضعت معركة الاستفتاء على الدستور أوزارها، لا داعى لأن يقيم المبتهجون بالنتيجة الاحتفالات، أو يدعون إلى مليونيات جديدة، حتى لو رفعت شعار نثر الورود والزهور.
وعلى ذلك تبدو الدعوة التى أطلقها القيادى الإخوانى الدكتور محمد البلتاجى لمليونية الورود غدا نوعا من المبالغة فى التفاؤل، قد تأتى بنتائج عكسية فى لحظة لا تزال فيها النفوس محتقنة بكل عناصر التشنج والغضب، حتى وإن كانت هذه الدعوة مغلفة بتمنيات بالمصالحة الوطنية وإزالة غبار الاحتراب المجنون الذى عاشته مصر على مدار الأسابيع الماضية.
إن المجتمع كله لا يزال حبيس أجواء من الهلوسة السياسية تتطاير فيها الاتهامات البذيئة هنا وهناك، وتمضى معها صناعة الاستقطاب فى اندفاعها، وأمام وضع ملبد بالغيوم مثل الذى نمر به من الأفضل أن نترك آلة الانقسام المندفعة إلى قانون القصور الذاتى، والأيام وحدها كفيلة بتهدئة إيقاعها ذاتيا، وحتما ستصل إلى نقطة سكون بعد أن تفرغ ما فى جوفها من وقود للصراع.
ودون التفتيش فى الضمائر، ومحاولة الحكم على النيات فإن الواقع يقول إن القوى الغاضبة فى الشارع قرأت دعوة البلتاجى على أنها كتبت بحبر انتشاء المنتصرين ورأت فيها محاولة لاستعراض القوة، ومن ثم سارعت بالحشد للنزول ضدها لمقاومتها، وليس للتفاعل معها، وهذا رد فعل طبيعى بالنظر إلى استمرار حالة الانشطار والانقسام التى تغذيها بلا رحمة ورش ومعامل تفريخ الكراهية على الجانبين.
وأزعم أن كل أطراف اللعبة الرئيسيين اكتفوا بدفع الجماهير لخوض السباق نيابة عنها، فيما جلسوا فى أبراج التوجيه والمراقبة والإدارة غير الواعية، الأمر الذى وضع مصر لأول مرة فى تاريخها أمام شبح الحالة اللبنانية.
وكما قلت فى هذا المكان من قبل بعضهم لا يتورع عن النظر إلى الجماهير وفق نظرية «فى الفرح مدعية وفى الحزن منسية» فهذه الجماهير رائعة وجميلة وواعية إذا كانت فى خدمة الحشد فى الشوارع والميادين، تتلقى الخرطوش والغاز، ثم هى جاهلة وأمية إن مارست حقها فى الاختيار أمام صناديق الانتخاب.
ولكل ما سبق مطلوب من النخب السياسية أن ترحم الميادين وجماهيرها من هذه اللعبة المجنونة، وتدير صراعاتها بأدوات سياسية على موائد الحوار والتفاوض، وتكف عن هذه العجرفة والاستعلاء.