سيكتب التاريخ أن حاكما مصريا منتخبا أصدر إعلانا دستوريا أتاح له الهيمنة المطلقة على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفى ظل هذا الإعلان الفرعونى الديكتاتورى الاستبدادى وصل عشرات الآلاف من المحكومين إلى أسوار قصر الحاكم وهتفوا ضده بأقذع الشعارات، وكتبوا على الجدران أقسى عبارات السخرية والإهانة، وباتوا ليلتهم معتصمين على باب القصر دون أن يطالهم أذى تنفيذى أو قضائى أو تشريعى. إن المادة السادسة من الإعلان الفرعونى تنص على الآتى «للرئيس أن يتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية البلاد وحماية أهداف الثورة» ومع ذلك لم نجد أثرا لأية إجراءات استثنائية أو تدابير من أى نوع تتخذ ضد الذين حاصروا قصر الرئيس.
كما لم نسمع عن «مواطنين شرفاء» اعترضوا المسيرات الغاضبة التى مرت من ميدان العباسية الشهير، صاحب مجزرتين ارتكبتا بحق الثورة خلال سنة، ثم عبرت أمام مقر وزارة الدفاع، وما أدراك ما التظاهر أمام وزارة الدفاع، واستقرت عند قصر الرئيس، آمنة مطمئنة دون أن تطلق رصاصة خرطوش أو تلقى طوبة شريفة، من تلك النوعية التى أودت بحياة الشهيد محمد محسن فى يوليو 2011.
والموضوعية تقتضى القول إنه بالقدر الذى نشيد به بسلمية وتحضر المظاهرات والمسيرات، التى أعلنت الرءوس الكبيرة براءتها منها واعتراضها عليها فى البداية، ثم بعد أن نجحت هبطت عليها بالبراشوت، يجب أن نقدر للحاكم الفرعون المستبد أنه لم يستخدم إعلانه الدستورى فى التعامل مع هذا الغضب الشعبى الذى وصل إلى عقر داره.
وهنا تبقى انتهازية الرموز الكبيرة مسألة لافتة للنظر، فكل التصريحات الصادرة عن القيادات الأنيقة حتى صباح الثلاثاء كانت تعلن مواقف رافضة أو بالحد الأدنى متحفظة على الزحف إلى قصر الاتحادية والاعتصام هناك، ثم حين ازدادت الحشود ونفذ الاعتصام تسابقوا فى الإعلان عن أنهم مع الاعتصام بل ومشاركون فيه، ويمكنك أن تراجع تصريحاتهم ومداخلاتهم التلفزيونية منذ مساء الاثنين وحتى مساء الثلاثاء.
ومن هنا تأتى الدهشة من هذه الحيوية المفاجئة التى دبت فى أوصالهم، ليعود الخطاب نزقا وساخنا بعد هدوء لافت، ولا يمكن هنا إغفال قراءة المواقف على ضوء ما تسرب عن لقاءات عقدت مع السفيرة الأمريكية بالقاهرة.
وتبقى محصلة ما جرى أمام الاتحادية أن نائب الرئيس المستشار محمود مكى كان صادقا حين أعلن فى حوارات منشورة أن الإعلان الدستورى مجمد وأن الرئيس لن يستخدمه، ذلك أنه لو كانت هناك نية لاستخدامه لكان هناك تعامل مختلف مع هذه التظاهرات.
ولو كنت مكان الرئيس مرسى الآن لاعتبرت المناخ القاتم المخيم على مصر الآن فرصة ذهبية لمصالحة مع الشعب تبدأ بالإعلان رسميا عن سحب الإعلان الدستورى الأخير، الذى فجر الغضب وصار تكئة لتجار السخط ومستثمرى المظاهرات لكى يمرروا أهدافهم الخاصة من خلاله، ويعقب ذلك منح مساحة أطول من الوقت للحوار الشعبى حول مسودة الدستور.. وقبل ذلك وبعده مصارحة الجماهير بما يحاك فى ظلام الداخل والخارج.