إن قول الحق لا يدع لى صديقا. وبعبارة ادق فإن ما احسبه قول حق لا يدع لى صديقا. وهذا ما سعيت إلى التمسك به ما وسعنى السعى فى الايام الماضية، وأرجو الله سبحانه ان يعيننى عليه ما بقى لى من ايام تالية.
كان يمكن لمشروع الدستور الذى انتهى اعداده اخيرا ان يكون مقبولا تماما، وان يكون ما يرد عليه من ملاحظات سلبية مما ينزل من منزلة التفاصيل التى لا تغير من الحكم النهائى عليه أو الموقف الكلى ازاءه. كان يمكن ان يكون الأمر كذلك لولا مسألتين اظنهما على مستوى مهم من الاهمية والخطورة، لا فى اثرهما كأحكام دستورية فقط، ولكن فيما ينبئان عنه من منهج غير حميد، يخشى من اتباعه مستقبلا فى شتى الامور. وهذان الامران وردا فى آخر نصوص المشروع، وكأنهما تركا للنهاية حتى يغفل عنهما الحاضرون ولا يفطنوا إلى ما يدلان عليه من خلل عميق فى الاستقامة النهجية لدلالتهما. وهما المادتان 235،236 وأولاهما خاصة بالمحكمة الدستورية، والثانية خاصة بالعمال والفلاحين.
نصت المادة 235 «يستمر رئيس المحكمة الدستورية العليا واقدم عشرة اعضاء بالعمل فى المحكمة، على ان يعود باقى الاعضاء إلى اماكن عملهم التى كانوا يعملون بها قبل تعيينهم بالمحكمة». وكانت المادة 176 قد حددت تشكيل المحكمة الدستورية برئيس وعشرة اعضاء فقط. وهذا جميعه يعنى ان المادة 235 فصلت ما يزيد من قضاة المحكمة على العشرة، فصلتهم من وظائفهم بها ونقلتهم إلى وظائف اخرى. وهكذا تضمن مشروع الدستور الذى سيستفتى عليه الشعب المصرى لتنظيم دولته وحياته الديمقراطية لمدى من السنين المقبلة التى لا يعرف عددها، تضمن قرارا بعزل قضاة من المحكمة الدستورية من وظائفهم. والسؤال الذى يثور هو «أليس فى ذلك نوعا من التدليس»، والتدليس لغة هو كتمان العيب والمخادعة واخفاء ما يستوجب الرفض أو الاستهجان. ووجه التدليس انك تفصل قضاة بأسمائهم فى صيغة نص دستورى شديد العمومية والتجريد، وتختلس عليه موافقة الناخبين دون ان يدركوا.
ان السيد رئيس الجمهورية الذى انتخب انتخابا نزيها وحرا، وبدأ يمارس سلطة التشريع التى ألقيت عليه رغما عنه فى غيبة المجلس النيابى التشريعى، كان وعد المصريين بألا يمارس سلطة التشريع الا فى اضيق نطاق وألا يستخدمها إلا فى حالات الضرورة القصوى. وان ما لاحظناه مع صادق حفظه لهذا الوعد بالنسبة للقوانين، قد اكسب نفسه بغير حق سلطة اصدار التشريع الدستورى الذى يعلو على القانون ولا تملكه سلطة التشريع، وذلك بما اصدر من اعلانات دستورية، كان أولها فى 11 أغسطس وكان الثانى فى 21 نوفمبر 2012. وبممارسة سلطة التشريع الدستورى هذه فصل النائب العام السابق وعين بديلا عنه، وانتقص من ولاية السلطة القضائية ما يمس ما يصدره من قرارات أو قوانين، ومنح السلطة التنفيذية امكان تشكيل نيابات خاصة ومحاكم خاصة لنظر دعاوى خاصة. وبذات النهج يراد بالدستور الذى سيستفتى عليه الشعب ان يعزل قضاة من المحكمة الدستورية ويكون لرئيس الجمهورية من بعد سلطة التعيين فى هذه المحكمة. فيحمل هذا الدستور الديمقراطى الناتج عن ارادة الشعب وثورته، يحمل وصمة الاعتداء على السلطة القضائية فى تشكيل من اعلى تشكيلاتها، مع ان من اهم المطالب الديمقراطية ومن اهم خصائص الدستور الديمقراطى ان يصون مؤسسة القضاء ويحصن قضاتها.
قد نختلف مع المحكمة الدستورية فى بعض ما تنتهى اليه، سواء فى منطوق احكامها أو فى الاسباب التى بنيت عليها الاحكام. ولكن لا يجوز على الاطلاق ان نغض الطرف عن مبدأ حمايتها، ولا ان نتهاون فى الوقوف ضد كل من يحاول ان يعتدى على وجودها أو على استقلالها. فهى جزء اصيل من القضاء المصرى، وقد استكمل القضاء المصرى بوجودها كامل سيادته على كل التصرفات والأنشطة التى تصدر من الدولة، وهى حامية الدستور من ان يلحقه اى عسف من غلواء نزاعات السياسة فى المجلس التشريعى، وهى صارت ذات مبادئ وتراث فى نظمنا الحقوقية. ويتعين كل حقوقى يحترم عمله وتجربته المهنية ان يقف يزود عنها كما يزود عن مؤسسات القضاء المصرى جميعا.
والحاصل ان الرغبة فى المساس بالمحكمة الدستورية أو تغييرها والسيطرة عليها، لم تكن ناشئة عن انها اصدرت حكما اقتضى حل مجلس الشعب، ذلك ان الحكم الذى اقتضى حل مجلس الشعب قد صدر فى 14 يونيو 2012. وقد سبق ذلك ما اثبته انا (كاتب هذه السطور) فى مقال لى نشر بصحيفة الشروق فى 10 مايو 2012، وهو ان رئيس مجلس الشعب وقتها بمجرد الطعن فى دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب وبمجرد بدء نظر المحكمة الدستورية لهذا الأمر، صرح رئيس مجلس الشعب فى 2 مايو بأن مشروع قانون قدم للمجلس «لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية»، وصرح مسئولون قانونيون من الحزب ذى الاغلبية بمجلس الشعب انهم يطالبون بإعادة تشكيل المحكمة وتغيير رئيسها، وذلك فى 5 مايو (يراجع المقال) وقد اشرت فى هذا المقال إلى ان ثمة من يريد التأثير بالتهديد على المحكمة.
والحاصل أيضا ان المجلس الاعلى للقوات المسلحة الذى تولى حكم مصر بعد الثورة وجرت الانتخابات النزيهة الحرة على اياديه واسلم السلطة إلى الهيئات المنتخبة من بعد، كان قد اصدر فى 18 يونيو 2011 مرسوما بقانون برقم 48 لسنة 2011 اكسب المحكمة الدستورية استقلاليتها فى تعيين رئيسها وقضاتها، بالنص على ان ذلك يكون بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة يصدر بعد القرار الجمهورى. وللأسف فإن مشروع الدستور المطروح الآن قد تجرد فى المادة 176 من هذا الحكم بما يتيح من جديد عودة السلطة الطليقة لرئيس الجمهورية فى تعيين رئيس المحكمة وقضاتها على ما كان عليه الوضع قبل الثورة ويكشف ذلك عن ان ثمة تخطيطا لإقرار أوضاع قانونية تكفل لرئاسة الجمهورية نوعا من الهيمنة على القضاء الدستورى.
ولنا ان نقلق على مصير استقلال القضاء كله، فإن من يسعى سعيا ظاهرا غير مستتر لعزل كبار رجال القضاء وتعيين آخرين مكانهم حسبما ينبئ عن ذلك الاعلان الدستورى الصادر فى 21 نوفمبر الماضى وحسبما يظهر من نصوص المحكمة الدستورية فى مشروع الدستور المطروح، ان ذلك مما يتعين ان نحذر منه ويتوجب علينا ان نشير اليه ابراء للذمة وإعلانا لموقف المعارضة الصريحة تجاه هذا السعى، فإن المؤسسة القضائية المصرية، ايا كان ما يعتريها من شوائب وقتية، هى من اهم ما بنته الحضارة المصرية الحديثة استقلالا وكفاءة ومستوى مهنى وأخلاقى شديد الاحترام، وهى جزء مما يتعين استبقاءه والدفاع عنه.
ولقد آلمنى اشد الألم ما سمعته اخيرا وانا اكتب هذه الكلمات فى مساء 2 ديسمبر 2012 من أن حشود المظاهرات تحيط بالمحكمة الدستورية وتمنع اعضاءها من الانعقاد وتتداول هتافات غير لائقة. ولا حول ولا قوة الا بالله.
ثانيًا
الأمر الثانى هو يتعلق بالمادة 236 الخاصة بالعمال والفلاحين. ومنذ دستور 1964 تقرر مبدأ أن يكون للعمال والفلاحين نصف مقاعد المجلس النيابى، بحسب انهم يبلغون ما يصل إلى نحو 80% من الشعب المصرى، وهم العاملون فى مجالات الانتاج كلها، وانهم يفتقدون الوسائل والمواقع التى تمكنهم من الظهور الاجتماعى، وتمكن الكفاءات القيادية منهم من الوصول إلى مجالات التمثيل السياسى فى مؤسسات الدولة. فلزم تيسير سبل الاتاحة لهم باعتبار ان «الضعيف قوى حتى يؤخذ الحق له» كما علمنا ابو بكر الصديق رضى الله عنه. وقد حاولت الطبقات المتميزة دائما ان تجور على هذا الحق الدستورى، وذلك بإطلاق تعريفات لمن هو العامل ومن هو الفلاح لا تقتصر عليهم فيستفيد غيرهم من هذه المزية.
وقد كان كل الرجاء فى اطار الثورة الديمقراطية التى بدأت مع 25 يناير 2011. ان يمتد اثرها الحميد إلى ما يؤدى إلى تفعيل هذا المبدأ والى رده إلى حقيقة المقصود به من جماهير الشعب المصرى المشاركين فى الانتاج، وغير المتاح لهم التشكل فى تنظيمات نقابية وسياسية تعبر عن حقيقة مصالحهم المشروعة وأوضاعهم الاجتماعية والثقافية، كما كان من المتصور المظنون ان التيارات الاسلامية وهى الأكثر شعبية تكاد تكون الوحيدة الآن القادرة على الوصول إلى هذه الفئات الشعبية وادراك ما تلاقيه وما تطمح اليه من حقوق مشروعة فى العمل والأجر العادل والتعليم والصحة.
ولكن الحاصل ان مناقشات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لمن قدر له ان يتابع ما ينشر عنها، لم تأت فقط خالية من تبنى هذا الموضوع أو اثارته والتمسك به بوصفه تقليدا تشريعيا دستوريا، وبوصفه يمثل اتاحة لحق التعبير والمشاركة فى التقرير لأصحابها، لم تأت خالية فقط ولكن هذه المناقشات تكاد تكون كشفت عن ان الغالب من اعضاء الجمعية التأسيسية كانوا متواصين على اسقاط هذا الحق فى صمت وكتمان، وكادوا أن يكونوا متفقين على ذلك رغم الاختلافات العميقة فى غير هذا الجانب ورغم ما كانوا عليه من فرقة واستقطاب حاد. وكان كلما اثار احد الاعضاء القليلين هذا الامر، يجرى الحرص على تأجيله على وعد لا يتحقق ابدا بمناقشته فيما بعد. وقد سجل احد الاعضاء ان جرى ذلك خمس مرات على التوالى والتصميم. وحتى الجلسة الاخيرة التى اجيز فيها مشروع الدستور كاملا فى مساء 22، 23 نوفمبر، اثير الموضوع عند الحديث عن مواد السلطة التشريعية، فأجل إلى آخر الجلسة فى النصوص الانتقالية. ثم جاء النص الوارد بالمشروع مع فجر اليوم التالى بالصيغة الآتية:
«م 236: يمثل العمال والفلاحون بمجلس النواب بنسبة 50%، ويعتبر عاملا كل من يعمل لدى الغير بأجر، ويعتبر فلاحا كل من عمل بالزراعة 10 سنوات على الاقل، وذلك لمدة دورة برلمانية واحدة».
وهكذا اعترف بالحق لدورة واحدة مع تعريف لكل من العامل والفلاح لا يفيد ضبطا ولا تحديدا، مع اسقاط هذا الحق بانتهاء الدورة البرلمانية الاولى مباشرة، ولو لم تكمل سنواتها الخمس.
لقد كنت اقترحت فى مقال لى فى صحيفة الشروق فى 9، 10 نوفمبر 2012 اقتراحا يتعلق بهذا الامر، وذلك على مسودة الدستور التى ظهرت وقتها، فقد كنت لاحظت خلو النص من الاقرار بالنسبة المقررة للعمال والفلاحين والتى صارت تراثا فى التشريع الدستورى المصرى على مدى نصف قرن حتى الآن. واقترحت تقريبا لوجهات النظر ازاء هذا الصمت المريب والاغفال المتعمد، ان يشكل مجلس الشورى بالانتخاب الشعبى العام من مرشحين عن الاتحادات والنقابات الفلاحية والعمالية والمهنية والجمعيات، وان يكون هذا المجلس مختصا بالمشاركة فى اصدار التشريعات الخاصة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وشئون الانتاج وتوزيع الدخول. وحاولت فى سبيل الإقناع بهذا الامر وتسويقه ان يكون ما ورد بمسودة الدستور عن المجلس الاستشارى للسعى «المجلس الاقتصادى والاجتماعى»، يكون هو مجلس الشورى فى التشكيل البرلمانى. ولكن لم يلتفت احد لهذا الاقتراح والأكثر من ذلك انه مع اسقاط هذا الحق الذى كان معترفا به دستوريا للجماهير الغفيرة فى مصر، فإن تشكيل مجلس البرلمان بالمشروع لم يسقط هذا الحق فقط، ولكنه بالغ فى الترفع غير المحمود وفى النخبوية التى اراها مذمومة لأنها تقوم معزولة عن جماهير الشعب المصرى. ولم يكتف التشكيل البرلمانى بأن يشترط فى المرشح لعضوية مجلس النواب ان يكون عارفا بالقراءة والكتابة، كما كانت النظم الدستورية فى مصر تكتفى منذ 1923، بل اضاف لأول مرة فى التاريخ الدستورى المصرى ان يكون المرشح لمجلس النواب حاصلا على «شهادة اتمام التعليم الأساسى» مما تفتقده نسبة كبيرة من المصريين، نسبة لا يحق لأحد تجاهل اهلها ووجودهم وحقهم فى المساهمة فى شئون بلادهم. كما ان هذا الشرط يجعل لوزارة التربية والتعليم سلطة تحديد من لهم حق الترشح فى مجلس النواب. لأنها هى من يحدد نتائج التعليم الاساسى، توسعة لمناهجه او اختزالا، وخفضا لمراحله او ارتفاعا، وتكثيرا للحاصلين عليه او تقليلا. بخلاف شرط معرفة القراءة والكتابة فهو لا يتوافر بموجب شهادة صادرة من جهة ما وهو مما يمكن أى فرد او جهة او شهود او محاكم ان تستوثق من مدى توافره عند النزاع والخلاف.
ثم بالغ مشروع الدستور اكثر، فجعل لمجلس الشورى المشارك فى السلطة التشريعية واصدار القوانين، ان يكون اعضاؤه من مرشحين حاصلين على «احدى شهادات التعليم العالى على الاقل» وهؤلاء فى مصر تبلغ نسبتهم فى التعداد الرسمى المصرى لسنة 2006 نسبة 9.3% ومعهم 0.4% حاصلين على شهادات اعلى كالماجيستير والدكتوراه. فيكون المجموع كله 9.7%، وقد يزيد هؤلاء فى سنة 2012 بما يقدره علماء الاحصاء بنحو 2% اخرى. فتكون النسبة الاجمالية لا تجاوز الآن 12% وهؤلاء فقط هم من يقر لهم الدستور بالنسبة لمجلس الشورى بحق المواطنة وتمثيل الشعب المصرى كله، والمشاركة فى اصدار القوانين والتشريعات، وتكون موافقة مجلس الشورى بهذا التشكيل على القوانين هو ما به تصح وتصدر. بمعنى ان صار لهذه النسبة المحدودة من المواطنين سلطة اعتراض او وجه من وجوه الاعتراض. وان الاغلبية المكلفة فى هذا المجلس تملك تعطيل القانون الذى وافقت عليه الاغلبية المطلقة لمجلس النواب، رغم ان عدد الاعضاء فى مجلس الشورى عادة ما يقل عن نصف عدد اعضاء مجلس النواب بمعنى ان صوت العضو بمجلس الشورى يعادل اكثر من صوتين من اعضاء مجلس النواب. وهذا الوضع النخبوى المذموم فى ظنى هو ما استعيض به عن نسبة العمال والفلاحين.
والعجيب ان الحكم الخاص بنسبة العمال والفلاحين يرد فى آخر نصوص مشروع الدستور ويتقرر لدورة برلمانية واحدة. وحتى فى هذه الدورة الواحدة فكيف يستقيم ان تعتبر النسبة صحيحة مع بقاء اشتراط شهادة التعليم الاساسى التى ستجعل من يستفيد من النسبة خارج الغالبية الغالبة لمن يعتبر حقيقة عاملا او فلاحا.
وان إيراد النص بهذه الصورة الملتفة ولدورة واحدة، يظهر ان سببه مما يسهل استنتاجه، لأن واضعى مشروع الدستور خشوا ان يكون اسقاط هذا الحق التاريخى من شأنه اشاعة روح رفض مشروع الدستور بين العمال والفلاحين فلا يحصل المشروع فى الاستفتاء على الاغلبية المطلوبة فوضع الحكم لاسترضاء هذه الجموع لتسويغ الموافقة على المشروع، مع تصميم مسبق على اسقاط حقهم فور اقرار الدستور، وهذا فى ظنى وجه من وجوه التدليس فى صياغة النصوص والاحكام، كنت اتمنى ان نعُفَ عنه وان نتنزه عنه بدافع سياسى يتعلق بانتمائنا جميعا إلى الشعب المصرى وجموعه، وبدافع أخلاقى يتعلق بالفكر العقيدى السامى الذى نحمله جميعا بحق وحرص.
انهى حديثى بما بدأته به من ان مشروع الدستور اكثر جوانبه العديدة طيبة ومقبولة. ولكن الملاحظتين السابقتين كانتا مما لا اطيق الصبر عليه امانة مع النفس وابراء للذمة امام الله سبحانه وتعالى.