وسط هبة الانتفاضات العربية، يمكننا أن نرصد ملمحين ثابتين فى الشرق الأوسط: استمرار نظام آية الله على خامنئى فى تحدى الضغوط الدولية بشأن برنامجه النووى، واستمرار محاولات حكومة بنيامين نتنياهو لإفشال أية احتمال للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين بشأن إقامة الدولتين. ويمكننا النظر إلى التصعيد الإسرائيلى فى قطاع غزة كعمل عادى من أعمال الردع. فمن حق أى دولة الدفاع عن نفسها. ويشير سجل السيد نتنياهو إلى المزيد من الدوافع المعقدة. فهو يخوض الانتخابات، ويريد إحباط أى محاولة من جانب إدارة اوباما لاستئناف مفاوضات السلام. وقد اعترض أوباما هذا الصيف على قيام إسرائيل بمهاجمة إيران. ولا يعتزم نتنياهو تقديم تنازلات فى المسألة الفلسطينية.
وقد عززت الهجمات الإسرائيلية على غزة شرعية حماس فى العالم العربى وأضعفت سلطة محمود عباس الفلسطينية. ففى زمن غير بعيد، كانت الحكومة الإسرائيلية تتحدث، وإن كان عبر المصريين، مع أحمد الجعبرى القائد العسكرى لمنظمة حماس. وبقتلها السيد الجعبرى، خلقت شهيدا جديدا للتطرف الفلسطينى. ويناضل السيد عباس، الذى منعه الاستعمار الإسرائيلى للضفة الغربية من القيام بأى شىء، كى يبدو متوافقا مع مقتضى الحال.
يتسق هذا مع رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلى الرجعية. فقد تغير كل شيء تقريبا فى الشرق الأوسط؛ لكن السيد نتنياهو لم يتغير. فهو يعيش فى ظلال أخيه بطل الحرب، الذى قضى نحبه أثناء عملية إنقاذ الرهائن الإسرائيليين فى عنتيبى، وأبيه الذى يعتقد أن العرب لن يتوصلوا إلى سلام مع اليهود. وما دامت حماس توصم بالإرهاب، فسيكون بإمكان السيد نتنياهو رفض محادثات السلام. ويتمثل الخداع المسكوت عنه فى القول بإمكان تأمين إسرائيل إلى الأبد عبر الانتصارات العسكرية.
لقد استنفدت هذه الاستراتيجية أغراضها حتى قبل اندلاع الانتفاضات العربية. إذ شن إيهود أولمرت، سلف السيد نتنياهو فى رئاسة الوزراء، حربا على حماس لإثبات أن الثمن الذى ستدفعه بسبب هجماتها الإرهابية سيكون باهظا. لكن السيد أولمرت بدأ يفهم أيضا أن العمل العسكرى قد لا يكون كافيا. وتوصل إلى أن تحقيق الأمن الدائم يعتمد على التصدى للقرار الذى تجنبته إسرائيل طويلا، وهو التفاوض بشأن الانسحاب من الأراضى الفلسطينية. وقال أولمرت خلال الشهور الأخيرة من رئاسته: «لقد آن الأوان كى نتكلم فى هذه الأشياء».
يخلق السيد نتنياهو الحقائق على الأرض المقصود بها أن تتحدى هذا المنطق الاستراتيجى. فقد جعلت سياسته الاستيطانية غزة أقرب إلى بانتوستان من عهد الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا. ويمكنك أن تسمع مؤيديه، وهم يعلنون استحالة إقدام زعيم إسرائيلى على إعادة الأراضى.
فى غضون ذلك، ينفد رصيد إسرائيل من الأصدقاء. وتنحدر حماس عائلة الإخوان المسلمين فى مصر نفسها التى ينتمى إليها محمد مرسى. وكانت الولاياتالمتحدة تتجنب الاتصال بالإخوان منذ وقت غير بعيد. وهذا الأسبوع، امتدح أوباما السيد مرسى على تصدره الوساطة لوقف إطلاق النار فى غزة.
وفى تركيا، التى كانت شريكا ذات يوم، تناصب الحكومة الحالية إسرائيل العداء شأنها فى ذلك شأن أية دولة عربية. وقادة أوروبا الذين أكدوا حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها إنما فعلوا على غير رغبة منهم. وحتى تونى بلير، الذى لم يختلف قط مع السيد نتنياهو عندما كان مبعوثا دوليا إلى المنطقة، يعتقد على ما يبدو بأن الوقت قد حان للحديث مع حماس.
ويرى السيد نتنياهو أن هناك صلة بين فلسطين وبرنامج إيران النووى. وهو يقول إن إسرائيل يمكن أن تفكر فى السلام فقط فى حال تصدت الولاياتالمتحدة لتهديد القصف الإيرانى. والمنطق يشير إلى عكس هذا الاتجاه. فالضغوط الدولية لا يمكن حشدها ضد إيران على الوجه الصحيح إلا إذا تخلصت من شبهة ازدواجية المعايير.
إن المقارنة بإيران ليست مريحة بحال من الأحوال. فآية الله خامنئى زميل فى الرجعية. وهو يتفق مع نظرة السيد نتنياهو فى أن القوة العسكرية هى المصدر الوحيد لتحقيق الأمن. وطهران ترى فى قدراتها النووية ضمانا أمام التهديدات الخارجية. ويتمثل الأمل الوحيد فى إقناع النظام بنبذ تصنيع القنبلة فى تقديم ضمانات أمريكية للأمن.
وردا على الأزمة الأخيرة، أرسل السيد أوباما هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية اللبقة، إلى المنطقة. فالرئيس الأمريكى لا يمكنه التوقف هناك. فزيارته إلى آسيا هذ الأسبوع كانت تذكيرا آخر بالتزامات أمريكا فى المحيط الهادى وتأمل الولاياتالمتحدة فى التخفف من مسئولياتها فى كل مكان للتركيز على الموارد الدبلوماسية والعسكرية فى شرق آسيا. وكان اشتعال الموقف فى غزة تذكيرا بأن هناك بعض المسئوليات التى لا يمكن التهرب منها.
وخلال فترة رئاسته الأولى، تغاضى أوباما عن عناد السيد نتنياهو. وعمل بنصيحة المسئولين الذين يرون أن الولاياتالمتحدة لا يمكنها أبدا تحدى إسرائيل.
والمطلوب الآن هو قيادة أمريكية قرار من البيت الأبيض بوضع معايير للتسوية وحشد التأييد الإقليمى والدولى الواسع لها. والعناصر معروفة تماما: دولة فلسطينية على أساس حدود 1967، إلى جانب مبادلات للأرض يتفق عليها الطرفان، وضمانات أمنية لإسرائيل والاعتراف بها من جانب العالم العربى، وعاصمة للدولتين فى القدس. وقد سبق لزعماء إسرائيل فى الماضى القبول بهذا واعتبروه عرضا عادلا. وفى حال رفض السيد نتنياهو له، عليه أن يوضح سبب رفضه.
حان الوقت كذلك كى ينزل الأوروبيون الملعب. وبدلا من الهمس الحذر، عليهم أن يصرحوا علنا بما يقبلونه سرا. وهم ليسوا بحاجة، فى كل الأحوال، إلى أكثر من اتباع سيناريو السيد أولمرت: أمن إسرائيل وديمقراطيتها لا يبرران إخضاع الفلسطينيين لأجل غير مسمى. ويجب أن تكون إحدى الطرق لبدء إعلان أوروبا دعمها لقيام دولة فلسطينية فى الأممالمتحدة. وإذا كان هناك درس وحيد من الأحداث الصاخبة التى شهدتها السنوات القليلة الماضية فهو أن عصر الرجعية العسكرية يوشك على الانتهاء.