الزمان مطلع شهر يوليو 2000م، والمكان العاصمة المصرية القاهرة. رنَّ جرس الهاتف فى منزل السياسى الفلسطينى المرموق، د.أحمد صدقى الدجانى، وفوجئ الرجل بأن الرئيس ياسر عرفات هو الذى يطلبه. رحب الدجانى بعرفات، وألح الأخير على ضرورة اللقاء السريع بينهما.توجه الدجانى، من فوره، إلى قصر الضيافة بمصر الجديدة، حيث ينزل عرفات وما إن التقيا، حتى تعانقا، وبكى عرفات على كتف الدجانى، الذى جمدته المفاجأة؛ فهو معارض عنيد لاتفاق أوسلو، الذى تحمس له عرفات فى حينه، توهماً منه بأن هذا الاتفاق سينقذ عرفات من المحاولات الدؤوبة لحكام الخليج من أجل الإطاحة به من سدة رئاسة كل من «منظمة التحرير الفلسطينية» و«فتح»، على حد سواء وفى ضربة واحدة، عقاباً لعرفات على مساندته الرئيس العراقى، صدام حسين، فى غزوه الكويت (صيف 1990م). ولم يدرِ عرفات بأنه كان يستجير من الرمضاء بالنار، فإذا كان الرئيس الفلسطينى محصِّلة للتوازنات الرسمية العربية، منذ تأسست «جامعة الدول العربية»، قبل نحو سبعين عاماً، فإن إفلات عرفات من مطرقة النظام السياسى العربى أدخله إلى المفرمة الصهيوأمريكية، الأمر الذى لم يلتقطه عرفات إلا متأخراً، وبعد فوات الأوان.
اعترف عرفات للدجانى بصحة تقدير الأخير لاتفاق أوسلو، وخطأ تقدير عرفات ومن معه لذاك الاتفاق. ثم دخل الرجلان فى حوار مجاملات؛ قبل أن يتوجه عرفات، فى الشهر نفسه، إلى الولاياتالمتحدة، ويحضر محادثات كامب ديفيد الثانية، مع نظيريه الأمريكى، بيل كلينتون، والإسرائيلى، إيهود باراك. وهى المحادثات التى انتهت بالفشل، على النحو المعروف. ما دفع عرفات إلى التعجيل بإشعال «انتفاضة الأقصى والاستقلال»، موظفاً تدنيس آرييل شارون لباحة الأقصى الشريف (28/9/2000م) فى تفجير تلك الانتفاضة.
غنىٌّ عن القول بأن عرفات إنما هدف بتفجير الانتفاضة إلى، أولاً، الانتحاء بسخط جماهير الضفة الغربية وقطاع غزة فى اتجاه المحتل الإسرائيلى، بعد أن استفحل ذاك السخط ضد الفساد غير المسبوق لأجهزة سُلطة الحكم الفلسطينى الإدارى الذاتى المحدود، إلى الضغط على باراك لانتزاع مكاسب حقيقية منه. وحسبى أن عرفات أراد أن يكرر مشهد حرب أكتوبر، التى استخدمها السادات فى تحريك الموقف مع إسرائيل، والتوجه نحو التسوية.
حقق عرفات هدفه الأول، وإن خاب هدفه الثانى، لأنه دخل الانتفاضة مجرداً من الشرطين الضروريين للانتصار وهما الجبهة المتحدة للفصائل المستندة إلى برنامج إجماع وطني؛ حتى أن «حماس» و«الجهاد» و«الشعبية و«الديمقراطية» خاضت جميعها غمار كفاح مسلح، كلٌّ حسب خطه السياسى، فيما ظلت أهداف عرفات من «انتفاضة الأقصى والاستقلال» أسيرة عقله وحده؛ فأفلت زمام الموقف من يد عرفات، وكان حين يريد التهدئة مع إسرائيل، يفاجأ بعملية فدائية أو استشهادية من أى من الفصائل الأربعة المشار إليها. ما أوقع الانتفاضة ضحية الشد والجذب، المزاودة والمناقصة. لذا ما كان لتلك الانتفاضة أن تنتصر.
استغلت عناصر من «فتح» أحداث 11 سبتمبر 2001م. فى الولاياتالمتحدة، وجاهرت تلك العناصر بمعارضتها للانتفاضة، قبل ان تطور تلك العناصر معارضتها لمجرد معارضة «عسكرة الانتفاضة». وتصدرت تلك العناصر واجهة ثلاثية، ضمت كلاً من عضو اللجنة المركزية لفتح، محمود عباس، ومسئول الأمن الوقائى فى قطاع غزة، العقيد محمد دحلان، والإعلامى المعروف، نبيل عمرو.
هكذا اكتمل المثلث بضلعه السياسى (عباس)، وضلعه العسكرى (دحلان)، وأخيراً البوق الذى تُرِك لعمرو. وقد حدث أن توجَّه الثلاثة (بربطة المعلم) إلى عرفات فى «المنتدى»، مقر قيادته فى قطاع غزة، يوم 5/11/2001م.، وألحوا على ضرورة وقف الانتفاضة، لكن عرفات رفض الاستجابة لإلحاحهم؛ فقدم دحلان استقالته، التى رفضها عرفات. وزاد هذا الإنقسام فى «فتح» شروط استحالة انتصار الانتفاضة.
منذ ديسمبر 2002م.، ألحت الإدارة الأمريكية على ضرورة إضافة موقع رئيس الوزراء فى «النظام الأساسى» للحكم الذاتى (بمثابة الدستور)، على أن يتولى ذاك المنصب محمود عباس، دون غيره. وتبنت «اللجنة الرباعية» الإلحاح الأمريكى. فيما ماطل عرفات فى تنفيذ هذا الطلب؛ إلى أن أقنعه الاتحاد الأوروبى، مطلع مارس 2003م.، بضرورة الإسراع بالاستجابة لمطلب «الرباعية»، خاصة وأن القوات الأمريكية كانت على وشك اجتياح العراق، مما يوفر لشارون فرصة ذهبية لإقصاء عرفات، وتنصيب عباس، بينما العالم كله منشغل بما يجرى فى العراق. ما دفع عرفات إلى الاستجابة، وحين وضعت الحرب الأمريكية ضد العراق أوزارها، حرَّك عرفات أنصاره، فى مظاهرة بمدينة رام الله، ضد عباس، ووصفته فى شعاراتها بأنه «كرزاى فلسطين»، ما جعله يعدل عن تقديم خطة حكومته إلى المجلس التشريعى، واستبدل بها استقالته المسبَّبة؛ بعد مائة يوم قضاها فى إرباكات وعقبات افتعلها له أنصار عرفات!
حسب رواية مرجَّحة، فإن شارون عرض على الثلاثة إياهم ضرورة التحرك السريع للتخلص من عرفات، ويسجل لعباس بأنه طلب استبعاده من هذا الأمر!
كانت تلك الجلسة بعد أيام معدودة من إطلاق الرئيس الأمريكى، جورج دابليو بوش، يد شارون فى أمر التخلص من عرفات، فى مكالمة هاتفية بين الرئيسين، فى 14/4/2004م، عندها خرج شارون يزف للصحفيين أمر إطلاق بوش يد شارون فى أمر التعامل مع عرفات. ومنذ يوليو من العام نفسه، أخذت الصحف الإسرائيلية تتداول فى أمر خليفة عرفات، الذى سرعان ما تم اغتياله بالسم الغامض، فأسلم الروح، فى باريس، فى 11/11/2004م، حسب الصحفى الإسرائيلى المعروف أورى دان، صديق شارون وكاتم أسراره.
هنا طويت صفحة وفتحت أخرى فى تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية أولاً، وفى مستقبل قضية فلسطين ثانياً.